Status             Fa   Ar   Tu   Ku   En   De   Sv   It   Fr   Sp   Ca   Ru  
    الجزء الاول     الجزء الثاني     الجزء الثالث     الجزء الرابع

العالم ما بعد ١١ ايلول
الجزء الرابع: ما بعد افغانستان



افغانستان: حرب أم ارهاب جوي؟

ان ما يجري في افغانستان ليس حرباً. فالحرب وفق المنطق بحاجة على الاقل لوجود طرفين يحتربان. الا أن ما يجري هو في الواقع قصف افغانستان من قبل امريكا. وفي هذا التاكتيك المبتدع حديثاً تقوم قوة عظمى عالمية, نصبت نفسها كجندرمة العالم، رسمياً باحلال الارهاب واشاعة الرعب بمقاييس مليونية محل الحرب. فبعد فيتنام، تقرر أن لا يشهد المجتمع الامريكي عودة الأكياس الحاوية على جثث الجنود المرسلون الى الجبهات البعيدة. وصار ملزماً الآن أن يدفع ثمن ذلك الناس المدنيون من مواطني ذلك البلد الذي اعتبر لسوء الحظ قاعدة ومركزاً لعدو امريكا الشرير والقائد الجديد لـ"امبراطورية الشر" وفق اطروحات استرونج لاو وأشباهه في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية الامريكية. فالخسائر التي لن يتكبدها الجيش الامريكي سيتم استيفائها بمئات المرات من الناس المدنيين الغافلين عما حولهم والذين يستحصلون لقمة عيشهم بآلاف المشاق في بلد فقير وعلى هامش العالم. فيوم يقع الخيار على جماهير العراق، ويوم على يوغسلافيا، ويوم على ليبيا ويوم على افغانستان. عشرات الآلاف من اطنان القنابل والصواريخ تلقى في ظلام الليل الدامس ومن ارتفاعات شاهقة جداً ومن حاملات الطائرات ومن الغواصات الكامنة في المحيطات البعيدة، على مساكن ومدن الناس. ويعلنون بافتخار انهم اعادوا البلد المقابل بالقنابل والمتفجرات الى العصر الحجري. ويصرون في هذه الحالة على ان القنابل "الذكية" لن تصيب سوى الجناة. والهدف هو اشاعة الرعب لاخافة المجتمع. وجعل الخوف هو المسيطر، الخوف من الموت، من التشرد، من انهيار اية ملامح مدنية، الى الحد الذي يصاب فيه المجتمع بالشلل. وتصبح المقاومة امراً غير ممكناً. فالقوات البرية الامريكية هي الآن مجرد كلب صيد عليه أن يقوم باحضار الطريدة الميتة بعد نهاية الصيد. ليس بامكان أي شخص، حتى امريكا والغرب، شجب الحرب ضد طالبان. ينبغي لطالبان أن ترحل وفي خاتمة المطاف يجب طردها بالقوة والهجوم العسكري. ان عداء الغرب الحالي للطالبان يفضل على صداقتهما السابقة.

ولن يقف أي شخص ضد سحب البساط من تحت اقدام السفاحين القتلة الذين دفعهم الغرب نفسه الى السلطة. الا أن بين الحرب والارهاب تفاوت واختلاف. فحملات امريكا وبريطانيا في افغانستان هي عمل ارهابي. وينبغي شجب وايقاف قصف المدن والمناطق السكانية الافغانية. فالاساطير المذهلة حول القدرة العسكرية لطالبان وتاريخ هزم القوى العظمى في افغانستان يؤدي الى خدمة هذا الاسلوب من الارهاب. لقد كان المجاهدون الافغان القوة التي تقدمت الصفوف الامريكية الغربية في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي. طالبان هي عصابة مافيا مجرمة تعتاش على انتاج وتجارة المواد المخدرة وقد صنعها الغرب نفسه بمساعدة باكستان والسعودية. ويمكنه اطفائها من مفتاحها الاصلي وافنائها خلال اسابيع. غير أن الارهاب الجوي، أكثر اماناً، اكثر اثارةً، اكثر عيرةً للناس المتمردين في العالم، وأكثر تجسيداً لجبروت امريكا وطغيانها. ينبغي الوقوف بوجه هذا الاسلوب غير الانساني.

من طالبان الى الاسلام السياسي

ان الهجمات الامريكية والبريطانية في افغانستان، حتى لو ادت الى سقوط طالبان وموت بن لادن، لن تعجز فقط عن التقليل من مخاطر الارهاب الاسلامي ضد الغرب، بل أنها ستشتد في اتساعها وتطورها على تنامي هذا الارهاب. وهذا ما يعلمه جيداً زعماء الدول الغربية ويحذرون المواطنين في الغرب رسمياً منه. ولكن اختيار افغانستان كأول ميادين وساحات الرد الامريكي مقابل جريمة (١١) ايلول، لأنه يمتلك خاصيتين اساسيتين بالنسبة لهم:

اولاً: حتى لو سلموا بأن الارهاب الاسلامي والسخط ضد الغرب الذي يغذي ذلك الارهاب، هو واقع سياسي ويحل بسبيل حل سياسي، فانهم لايرون تحويل رد فعل سياسي الى حملة عسكرية شاملة داخل الاراضي الامريكية امراً كافياً ومناسباً. فالعسكرتارية هي من اركان الايديولوجيا الرسمية فيامريكا ومركز الثقل في تعريف هويتها كقوة عظمى. ولذلك فان الهجوم على امريكا لا يمكن الرد عليه حسب هذه الرؤية الا من خلال خلال هجوم على اشخاص آخرين وفي اماكن اخرى. وبالنسبة لأمريكا فان الرد على (١١) ايلول، بغض النظر عن جوهر وأسس وخصائص الاسلام السياسي والارهاب الاسلامي، لا يمكن أن يتم الا من خلال عمل عسكري. ينبغي أن يكون هذا العمل العسكري عظيماً ومهيباً، وعليه أن يعكس "غضب وجبروت امريكا" وعنفها. الا أن العمل العسكري العظيم بحاجة لميدان محدد. والحرب تتطلب وجود ساحة حرب. لم يكن اختيار افغانستان بسبب وجود بن لادن فيها، بل على العكس كان اختيار بن لادن بسب وجوده في افغانستان. فليس قليلاً عدد قادة الارهاب الاسلامي من امثال بن لادن الذين يعيشون بأشكال علنية وسرية في ايران، بريطانيا، فرنسا، مصر، باكستان، لبنان وفلسطين والشيشان. والتصور الذي يرى أن الارهاب الاسلامي شبكة هرمية ذات سلسلة من المراتب المعلومة يقف بن لادن على رأس هرمها، هو مسخرة هزيلة. ومن البعيد جداً أن يكون خامنئي خاضع لرئاسة بن لادن في هذه السلسلة من المراتب. ان المفتاح هو أفغانستان. انها الارض التي يمكن تحويلها الى ساحة هجمات عسكرية عظيمة. افغانستان هي الميدان الممكن من أجل "الثأر الامريكي" ذو الابعاد العسكرية الشاملة والمهيبة التي وعدت بها الهيئات الحاكمة في هذا البلد. وخارج افغانستان ليس هناك أي هدف عسكري يمكن تحديده وتوجيه الضربات له. والآن حتى زعماء الغرب يشكون من عدم وجود البنايات الشاهقة والمناصب الرفيعة بالدرجة المطلوبة من اجل افنائها وتدميرها.

ثانياً: مثلما ذكرت في الجزء السابق، من المقرر ان يكون ما بعد الصراع مع طالبان وبن لادن في افغانستان تحديد مصير العلاقة وتناسب القوى بين امريكا والغرب وبين الاسلام السياسي. فـ"الحرب الطويلة الامد مع الارهاب" هي الاسم الرمزي للمصارعة مع الاسلام السياسي. انها حرب السلطة والهيمنة التي ينبغي القيام بها من منظار امريكا عاجلاً او آجلاً لتعريف الخصائص الأكثر ثباتاً ورسوخاً لنظام عالمي جديد بعد انهيار الأتحاد السوفيتي. لقد كان الاسلام السياسي أحد النتائج الجانبية للحرب الباردة، جيث برز بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كتيار برجوازي متطلع للسلطة في بلدان الشرق الاوسط ووسط التجمعات "الاسلامية" داخل المجتمعات الغربية نفسها. هذا التيار اما حظى بالامساك بالسلطة او امتلك مواقع سياسية مؤثرة في جزء من العالم وفي بلدان لها ثقلها واهميتها مثل ايران وباكستان. انه زاوية وجانب من الصراع حول مستقبل فلسطين واسرائيل. ففي جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة وبالقرب من مراكز العتاد النووي كان يصيد الفئران، وفي نفس الغرب، يكسب الاعضاء افواجاً افواجاً من شباب التجمعات المسلمة بفضل اموال السعودية والمكارم الدولية والايديولوجيا المتخلفة لنظرية تعدد الثقافات. ومن منظار الغرب فان هذا الاسلام السياسي ما عاد الالعوبة التي كان مقرراً أن تلعب دوراً في تطويق الاتحاد السوفيتي، والتصدي لوصول اليسار الى السلطة في الثورة الايرانية ضد الملكية ومنافسة عرفات والحركة القومية العربية. هذه الظاهرة تمتلك الآن دعاة أكثر عدداً. وقد خرجت من ظل الغرب. وفي (١١) ايلول تجاوز الاسلام السياسي من منظار امريكا حدوده. فالهجمة الارهابية التي اتخذت هذه الابعاد في قلب امريكا، هي بداية المصارعة المحتومة. هذه الاحداث هي في الاساس، تفاصيل ومراحل حرب السلطة والهيمنة بين امريكا والغرب وبين الاسلام السياسي. ومن منظار امريكا فانها ستكون صراعاً مع الدول والاحزاب الاسلامية ومجمل حركة الاسلام السياسي. ان طالبان هي اضعف اعمدة سلطة الاسلام السياسي في الشرق الاوسط وأكثر اهتراءاً وتداعياً ولذلك مثلت بالنسبة لأمريكا انسب نقاط الشروع بجرب السلطة الواسعة النطاق هذه. انتصار امريكا في افغانستان لا يمس من منظار عسكري وعملي اسس الاسلام السياسي. وهم يعلمون ذلك. فالمراكز الاصلية للسلطة هي في الدرجة الاولى في ايران والسعودية وفي المنظمات الاسلامية في مصر ولبنان وفلسطين. الا أن هذه الحرب هي حرب السلطة والهيمنة، وليست حرب الحياة والموت. وأفغانستان هي الميدان الوحيد الذي يجعل المواجهة العسكرية، على الاقل في الاطار الراهن للعالم، بين امريكا والاسلام السياسي امراً ممكناً. انها الميدان الوحيد الذي يمكن أن تبدأ فيه "حرب طويلة الامد ضد الارهاب" بعمل عسكري مثير ومذهل.

هذا الصراع هو صراع سياسي

" الحرب الطويلة الامد ضد الارهاب"، أي حرب الهيمنة التي تخوضها امريكا ضد الاسلام السياسي، ستكون في الجوهر بعد افغانستان صراعاً سياسياً، حتى لو لجأ الطرفان في فترات معينة الى الاجراءات العسكرية المحددة والهجمات الارهابية ضد احدهما الآخر. هدف امريكا من هذه الحرب ليس حذف الاسلام السياسي. وعلى عكس ما يشيعه تيار الخاتمية فان ما "انقذ ايران من القصف" لم يكن خاتمي وسياسته الحكيمة. لأن الهجوم على ايران ومثل هذا القصف لم يكن وارداً اساً في جدول أعمال الغرب. والتصور القائل أن امريكا ستخوض بعد افغانستان حرباً ضد البلدان التي تعتبرها ارهابية واحداً بعد الآخر هو تصور سطحي وساذج تماماً. فهدف الغرب من هذه المصارعة لا افناء وانهاء الاسلام السياسي ولا حتى بالضرورة اسقاط الحكومات الاسلامية، بل ان هدفه هو اخضاع الحركات الاسلامية لهيمنته السياسية وتحديد قوانين اللعب. ومن منظار امريكا فان على هذه الحركات أن تعرف الحدود المرسومة لها. وعليها أن تحد من ميدان عملياتها في المنطقة وأن تفهم الحدود بين مكانتها ومكانة امريكا الخاصة. ليس فقط بامكان الحكومات الاسلامية أن تبقى، بل وحتى أن بإمكان الإرهاب البقاء، بشرط أن يكون الشيوعيون واليساريون في ايران وافغانستان وباكستان وتركيا ضحايا ذلك الارهاب. اما القيام بهجمات داخل اراضي امريكا نفسها فان هذا الخطأ الكبير. امريكا تريد نقل هذا التوازن الى الشرق الاوسط.

هذه الحرب هي حرب الهيمنة والزعامة وليست صراعاً حول الاسلام، الليبرالية، الديمقراطية الغربية، الحرية الحضارة، الأمن أو الارهاب. انها صراع بين القوة العظمى امريكا وبين حركة سياسية متطلعة للهيمنة في الشرق الاوسط، لها ابعادها العالمية، من اجل تعريف توازن سياسي معين وتحديد ميادين نفوذها وهيمنتها. فالغرب ليس بصدد بناء ديمقراطية غربية فيالشرق الأوسط. وأمريكا وباكستان وايران وطيف واسع من الرجعيين في المنطقة يريدون المساومة مع بعضهم البعض الآن من اجل فرض حكومة استبدادية ومتخلفة أخرى على جماهير افغانستان. فايران والسعودية وباكستان وشيوخ الخليج، الذين هم اكثر الانظمة العالمية المعاصرة رجعيةً، هم الحلفاء الرسميون والعمليون للغرب في هذا الصراع. وحتى في حالة سقوط الحكومات الاسلامية سيكون البديل الحكومي الذي يطمح له الغرب في المنطقة هو الاحزاب اليمينية الرجعية والانظمة البوليسية والعسكرية.

امريكا لا تصنع التاريخ

الا أن الغرب لا يقرر مستقبل هذا المسار، فالسياسة الحالية والاجراءات الامريكية ستغير، شئنا ام ابينا، الاطر السياسية الموجودة في الشرق الاوسط، غير أن علاقات البديل الذي سيتشكل ويتبلور ستحددها وتقررها قوى اخرى. وليس هناك من شك أن مواجهة الغرب مع الاسلام السياسي ستؤدي الى اضعاف الحركة الاسلامية وأحزابها وحكوماتها. الا أن هذا الصراع لا يتبلور ويتجسم في ميدان وساحة خالية. فالشرق الاوسط، مثلما هو الغرب نفسه، هو ميدان صراع الحركات الاجتماعية الموجودة قبل صراع البرجوازية الغربية مع الاسلام السياسي والتي حددت ملامح المسارات السياسية في المجتمعات المختلفة. صراع الغرب مع الاسلام السياسي، ورغم كل هذه الاهمية التي يمتلكها، ليس القوة المحركة للتاريخ في هذه المجتمعات، بل بالعكس، هو نفسه يتموضع ويتخذ معناه في قلب هذا التاريخ. ان الصراع حول تحديد النظام العالمي الجديد له لاعبيه الأهم. وطبقات اولئك اللاعبين الاجتماعية وحركاتهم السياسية، سواء في الغرب او في الشرق الاوسط، تصطف وتستقطب حول المستقبل السياسي والاقتصادي والثقافي للعالم. هذه الحركات هي التي ستحدد الاتجاه النهائي لهذه المسارات بمعزل عن ارادة قادة الغرب وسياسييه وزعماء الاسلام السياسي.

بشكل مشخص، وبقدر تعلق الامر بالشرق الاوسط، حتى لو كان الغرب يطالب بتراجع جزئي للأسلام السياسيوتعريف اسس تعايش جديد معه، فأن الحركات الاشتراكية والتحررية والعلمانية في المنطقة ستدخل الميدان في ظل الاوضاع الجديدة بمعزل عن اطروحات الغرب ومخططاتها. وكمثال ارى أن الاسلام السياسي سينهار في ايران، ليس من زاوية الغرب يريد مثل ذلك من هذه المواجهة الاخيرة، بل من زاوية أن جماهير ايران وعلى رأسها الشيوعية العمالية ستسقط الحكومة الاسلامية في قلب وبالتزامن مع هذا الصراع الجديد. انهيار الجمهورية الاسلامية ستكون اقوى ضربة توجه لهيكل الاسلام السياسي. فاذا كان حل مسألة فلسطين هو الشرط لازالة الالاسس السياسية والفكرية والثقافية لنمو الاسلام السياسي في الشرق الاوسط وعلى صعيد عالمي، فان انهيار الجمهورية الاسلامية هو الشرط لازالته ولافناءه كحركة متطلعة للسلطة في الشرق الاوسط. وسيتحول الاسلام السياسي على صعيد الشرق الاوسط الىتيار معارض عديم الافق والمستقبل.

(البقية في العدد القادم.)

منصور حكمت


ترجمة: يوسف محمد
hekmat.public-archive.net #2000ar