الدولة في المراحل الثورية
النظرية الماركسية حول الدولة و"المراحل الانتقالية"
لقد صار جزءاً من الفهم العام أن الدولة من منظار الماركسية هي أداة السلطة والسيادة الطبقية للطبقة السائدة اقتصادياً. الدولة هي وسيلة إخضاع الطبقات المضطَهدة والمستغَلة وحماية علاقات الملكية والإنتاج الموجودة من هجمات الطبقات المضطَهدة. وفي كتاب "الدولة والثورة" يبدأ لينين بإيراد نصوص مفصلة نسبياً مباشرةً من آثار ماركس وانجلز ليوضح كيف أن الدولة وبعكس الأوهام التي تشيعها البرجوازية ليست ظاهرة فوق الطبقات والمجتمع مهمتها "تنظيم" العلاقات الطبقية وتمثيل "المصالح العامة". فالدولة وعلى الرغم من التصورات الشائعة في المجتمع البرجوازي، هي الممثل لمصالح طبقية معينة والمدافع عنها، أي مصالح الطبقة السائدة اقتصادياً. وقد كان ظهور الدولة متزامناً في الأساس مع ظهور الاستغلال، والتقسيم الطبقي للمجتمع والتناقضات والصراعات الطبقية.
وكما قلت فان هذه النقاط هي اليوم جزء من البديهيات ولن أقوم هنا بتوضيحها أكثر، خصوصاً وأن بحثي هو في الأساس في انتقاد التعميم الميكانيكي والكليشي لهذه التعريفات على مجمل تفاصيل عملية التكامل التاريخي للمجتمع وخصوصاً على "المراحل الثورية".
ومن النظرة الأولى يبدو واضحاً أن التعريفات الماركسية الوارد ذكرها فيما تقدم عن الدولة تأخذ بنظر الاعتبار الحركة الروتينية للمجتمع. فهذا التعريف والتحليل للدولة في الأوضاع "الروتينية"، أي المراحل التي لا يكون فيها المجتمع بصدد التحول الثوري. وأذكِّر أن المادية التاريخية ليست الجمع العددي لخمسة تصورات جامدة عن خمسة أنماط إنتاجية "تقليدية" (المشاعية البدائية، العبودية، الإقطاعية،الرأسمالية، والشيوعية). هذا في الواقع هو مسخ وتشويه ميكانيكي للمادية التاريخية من قبل التحريفيين. فمادية ماركس التاريخية ليست فقط تحليل أساليب الإنتاج المختلفة وإعلان إحلال بعضها محل البعض الآخر في مسار تاريخي متتابع، بل تشتمل أيضاً على تحليل ديناميكية مسار التحول هذا وخصائص مراحل التحول أيضاً. كيف تحل أساليب الإنتاج هذه وبأية عملية تاريخية محل بعضها البعض؟ لو أخذنا هذه الديناميكية بنظر الاعتبار، حينذاك سندرك أن جزءاً أساسياً من التفسير المادي للتاريخ، هو فهم خصائص المراحل الانتقالية، مراحل التحول، بين العلاقات الإنتاجية التي تشكل كل واحدة منها لمراحل طويلة الشكل التقليدي والمعاد إنتاجه للنشاط الاقتصادي والحياة الاجتماعية للبشر. بعبارة أخرى فان أساليب الإنتاج لا تترك محلها لبعضها البعض بشكل مفاجئ وبدون مقدمات. فلا الإقطاعية تترك مكانها للرأسمالية بشكل مفاجئ وبدون مقدمات ولا الشيوعية ستحل محل الرأسمالية بنفس الشكل. تحليل المراحل الانتقالية ومراحل التحول الثوري في المجتمع، هي بنفس الدرجة جزء من الرؤية المادية للتاريخ حالها حال تحليل الأنماط التقليدية للإنتاج وإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية للبشر. وقد طرح ماركس هذا الموضوع بشكل واضح في "مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي":
"في مرحلة معينة من تطورها تتناقض قوى الإنتاج المادي للمجتمع مع العلاقات الإنتاجية القائمة أو بعبارة أخرى (حيث أن هذا هو التعبير الحقوقي لنفس الأمر) مع علاقات الملكية التي سبق وأن عملت تلك القوى في إطارها. وستتحول (هذه العلاقات الموجودة) من إطار لنمو قوى الإنتاج الى عقبة في طريقها، حينذاك ستبدأ مرحلة من الثورة الاجتماعية"
وسأشير فيما بعد أنني أستخدم طوال هذا البحث مفهوم "المراحل الثورية" بمعناه المحدود وليس للدلالة على كل مراحل التحول الثوري للمجتمع، أي المرحل الانتقالية التي يشير إليها ماركس. ولكنني في الحقيقة آخذ بنظر الاعتبار نفس المعنى الأوسع ونعود مجددً الى الصيغة الواردة سابقاً لتعريف الدولة. فهل بالإمكان استخدام هذا التعريف بنفس الشكل لتوصيف خصائص وماهية الدول (كل الدول) طوال هذه المراحل الثورية؟ بعبارة أخرى هل تتطابق صيغة "الدولة هي أداة سيادة الطبقة السائدة اقتصادياً" مع خصائص ومشخصات المراحل الانتقالية الثورية؟ بالضرورة، كلا. فموقف الفوضويين من دكتاتورية البروليتاريا وكذلك موقف منظمات من مثل الوحدة الشيوعية إزاء مقولة الجمهورية الثورية، هي النماذج الحية للمأزق النظري لأشخاص لم يتعلموا من الموقف الماركسي إزاء الدولة سوى صيغة واحدة يكررونها في كل الظروف والأوضاع.
دكتاتورية البروليتاريا، على سبيل المثال، هي دولة مرحلة انتقالية. ولكن هل أن دكتاتورية البروليتاريا هي دولة طبقة سائدة اقتصادياً؟ من الواضح أن الأمر ليس بهذا الشكل. إنها دولة طبقة انتفضت على الطبقة المستغِلة المسيطرة على الإنتاج. دكتاتورية البروليتاريا لا تستند منذ البداية على اقتصاد المجتمع القائم، وليست ممثلة لطبقة سائدة اقتصادياً على الطبقات الأخرى. بل أن الأمر بالعكس تماماً، فهي دولة ضد الاقتصاد القائم. وفي الواقع فان هذه الدولة تعجز تماماً حتى في مستقبلها عن التحول الى أداة سيادة طبقة في علاقات اقتصادية طبقية محددة. فالثورة الاشتراكية هي ثورة ضد الطابع الطبقي للمجتمع والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وضد الاستغلال الطبقي نفسه. والاقتصاد الجديد الذي يكون حصيلة هذه الثورة مرادف لنفي فلسفة وجود الدولة بشكل عام. الثورة الاشتراكية هي ثورة ستقضي على الدولة بالتزامن مع القضاء على التقسيم الطبقي للمجتمع أيضاً.
ولكن إذا لم تكن دكتاتورية البروليتاريا أداة الحفاظ على علاقات الإنتاج الطبقية القائمة الآن، إذا لم يكن مقرراً أن تكون هذه الدكتاتورية بناءاً فوقياً سياسياً متطابقاً مع ملكية طبقة معينة لوسائل الإنتاج، إذن ما هي فلسفة وجودها؟ أو بعبارة أخرى كيف يوضح "التحليل الماركسي" للدولة دكتاتورية البروليتاريا.
إن قسماً مهماً من كتاب لينين الدولة والثورة يختص بالجدال مع التصورات الفوضوية التي ترفع قامتها ضد دكتاتورية البروليتاريا بفهم ميكانيكي وميتافيزيقي عن حركة المجتمع التاريخية، وبالعجز عن تعميق فهمها للدولة أكثر من تعريف "الدولة التقليدية". فإذا كانت الثورة الاشتراكية مرادفة لزوال الطبقات ومن ثم الدولة، وإذن ما هو دور دكتاتورية البروليتاريا في هذه الأثناء؟ وهنا يكشف لينين النقاب عن "جانب آخر" من النظرية الماركسية حول الدولة. فدولة دكتاتورية البروليتاريا لا تُستنتج من "الاقتصاد" بحد ذاته، بل من السياسة ومن الصراع الطبقي، وهذا هو محور التحليل الماركسي للدولة في المراحل الثورية:
"في البيان الشيوعي يتم طرح تصور شامل عن التاريخ يضطر الإنسان للنظر الى الدولة بمثابة هيئة السيادة الطبقية وهذا ما يوصله بالضرورة إلى هذه النتيجة وهي أن البروليتاريا تعجز عن إسقاط البرجوازية إلا إذا أمسكت في البداية بزمام السلطة السياسية واستبدلت الدولة بـ"البروليتاريا المنظمة بمثابة طبقة سائدة"؛ وستتجه هذه الدولة البروليتارية مباشرة بعد الانتصار نحو الاضمحلال والزوال، لأن في المجتمع الخالي من التناقضات والتضاد الطبقي ليس هناك من ضرورة للدولة وتعجز عن البقاء والوجود. وهنا لم تطرح هذه القضية وهي كيف يتم من ناحية التطور التاريخي استبدال الدولة البرجوازية بالدولة البروليتارية"
(الدولة والثورة/المجلد ٢٥ من مجموعة الاعمال الكاملة باللغة الإنجليزية، الصفحة ٤١١)
وهنا يوجه لينين اهتمامه صوب تلك الفترة من تاريخ البشر التي تبدو في "تصور شامل" عن التاريخ كـ"نقطة"، كموضع لالتقاء نظامين، كمقطع لاستبدال دولتين موقعيهما. وهذه هي المراحل الانتقالية بعينها. وتتمتع هذه المراحل بأهمية بالغة في التحول التاريخي. ففي هذه المراحل، أي طوال العملية الطويلة نسبيا لاستبدال نظامين أحدهما بصدد التغير والآخر الذي ما زال لم يقم بعد، أية ظاهرة هي الدولة؟ هذا هو الجانب من النظرية الماركسية حول الدولة الذي يتم نسيانه وإهماله في المنظومة الميكانيكي للتحريفية، وتبعاً لذلك لدى القسم الأعظم من اليسار في إيران:
"إن شخصاً استوعب تعاليم ماركس حول الدولة هو الذي يكون مدركاً أن دكتاتورية طبقة معينة ضرورية ليس فقط لكل مجتمع طبقي بصورة عامة،.. بل وحتى أيضاً لمراحل تاريخية كاملة تفصل الرأسمالية عن "المجتمع الخالي من الطبقات" أي الشيوعية. فقط تنوعت أشكال الدولة البرجوازية بشكل استثنائي ولكن جوهرها يظل واحداً. وأياً كان شكل تلك الدول إلا أنها في جوهر الأمر تمثل حتماً دكتاتورية البرجوازية. وبالتأكيد ستنتج مراحل الانتقال من الرأسمالية الى الشيوعية أشكالاً سياسية متنوعة ومختلفة، إلا أن ماهيتها ستكون شيئاً واحداً، ألا وهي دكتاتورية البروليتاريا"
(المصدر السابق،ص ٤١٨، التأكيد في النص الأصلي)
دكتاتورية البروليتاريا هي الدولة المتناسبة مع تلك "المراحل التاريخية" المحددة، أي المراحل الانتقالية الثورية. دكتاتورية البروليتاريا هي دولة ضد الاقتصاد الرأسمالي وهي في نفس الوقت دولة ليست متطابقة مع الاقتصاد الشيوعي لأن هذا الاقتصاد الجديد لا يستند على التقسيم الطبقي ومن ثم هو ليس بحاجة الى الدولة بمثابة قوة قمع وإخضاع. هذه الدولة، هي الدولة الفاصلة للتاريخ بين هذين "الاقتصادين" ولذلك تكتسب ضرورتها وفلسفة وجودها وخصائصها لا من الاقتصاد والبنية التحتية الاقتصادية مباشرةً، بل من مكان آخر: من الثورة، من الصراع الطبقي الذي يتحول الى المسار الأساسي والحاسم للعلاقات المتضادة للطبقات الاجتماعية طوال مرحلة التحول الثوري. دكتاتورية البروليتاريا هي دكتاتورية، ولكنها ليست من أجل الحفاظ على علاقات إنتاجية وطبقية محددة وقائمة، بل من أجل إحباط المقاومة المضادة للتغيير الثوري لتلك العلاقات:
"الدولة (قوة خاصة من أجل القمع).. ..ولكن ما يُستنتج من هذا التعريف هو "قوة خاصة لقمع" البروليتاريا بيد البرجوازية، وينبغي استبدال قمع ملايين الكادحين من قبل المتسلط بـ"القوة الخاصة لقمع" البرجوازية بيد البروليتاريا (أي دكتاتورية البروليتاريا). وهذا يعني أيضاً (زوال الدولة بوصفها دولة). ويعني "الإقدام" على تملك وسائل الإنتاج باسم المجتمع، ومن الواضح أن مثل هكذا استبدال لـ"قوة خاصة" (البرجوازية) بـ"قوة خاصة" أخرى (البروليتاريا) لا يمكن أن يتحقق بصورة "اضمحلال" (نفس المصدر، ص ٤٠٢)
"الدولة هي منظمة خاصة للقمع: الدولة تنظيم ممارسة العنف لقمع طبقة معينة. ولكن أية طبقة على البروليتاريا أن تقمعها. بالطبع ويبدو بديهياً أنها الطبقة المستغِلة، أي البرجوازية. إن الكادحين بحاجة للدولة فقط من أجل قمع مقاومة المستغِلين، وبإمكان الطبقة العاملة فقط قيادة وتحقيق هذا القمع (نفس المصدر، الصفحة٤٠٧)
وهنا نواجه مفهوماً أعم لمقولة الدولة، وهو في نفس الوقت أكثر بساطة وأشمل. الدولة "قوة قمع خاصة" للقمع الطبقي. وهذه هي الخاصية المشتركة لكل دولة، سواء كانت دولة تقليدية أو دولة مرحلة انتقالية. ففي الأوضاع الروتينية حيث يجري إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية للبشر ضمن إطار علاقات إنتاجية معينة أو بعبارة أبسط يكون "الاقتصاد" المحور الحاسم في العلاقات والتأثيرات المتبادلة للطبقات الاجتماعية، تمارس الدولة دورها القمعي في الأساس ارتباطاً بالحفاظ على العلاقات الإنتاجية الموجودة في خدمة الطبقة السائدة اقتصادياً. ولكن في المراحل الانتقالية فان هذا لا يشكل العنصر الحاسم في تحليل الدولة، لأن تناقضات العلاقات الاقتصادية القائمة، هي بحد ذاتها تطرح عاملاً جديداً في العلاقات بين الطبقات يسلط الضوء على كل شيء، أي الثورة وصراع الثورة والثورة المضادة. وهنا تشكل الدولة وسيلة لحسم هذه القضية. إن الدولة في المراحل الانتقالية تعمل بمثابة دولة بالقدر الذي يتم استخدامها فيه كوسيلة لحسم وتحديد مصير هذه القضية، أي الثورة. وهنا فان الدولة لا تشكل أداة سياسية للحفاظ على السيادة الاقتصادية، بل أداة سياسية للحفاظ على أو ترسيخ السيادة السياسية. وإذا كان ظهور الدولة قد تبلور تاريخياً مع ظهور تراكم الثروة والاستغلال، إذا كانت الدولة في مجتمع روتيني، في مجتمع "في حالة إنتاج" ضمانة تأمين السلطة الاقتصادية، فإنها في المراحل الانتقالية ترتبط مباشرة بالصراع الطبقي المتنامي لدرجة الثورة. ويبين لينين بوضوح ضرورة دكتاتورية البروليتاريا:
"حين تطبق نظرية الصراع الطبقي من قبل ماركس في قضية الدولة والثورة الاشتراكية، فإنها تقود بالضرورة الى القول بالسلطة السياسية للبروليتاريا، القول بدكتاتوريتها...إسقاط البرجوازية هو الخطوة العملية التي تجعل من البروليتاريا طبقة حاكمة قادرة على هزيمة المقاومة الحتمية والضروس للبرجوازية وتؤدي بها لأن تنظم كافة الجماهير الكادحة والمستغَلة من أجل النظام الاقتصادي الجديد" نفس المصدر، الصفحة ٤٠٩)
ويجد الانتهازيون والفوضويون كلاهما أن الثورة البروليتارية تتناقض مع إقامة الدولة الدكتاتورية. فبالنسبة لأحدهما كان يجب أن تكون الثورة البروليتارية المبشر بـ"الديمقراطية" وإنهاء كل شكل من أشكال الدكتاتورية، وبالنسبة للآخر كانت الثورة البروليتارية مرادفة لزوال الدولة. وعجز كل من هذين التيارين عن إدراك خصائص المراحل الثورية، المراحل الانتقالية، وخصائص الدولة في هذه المراحل. ويربط لينين بوضوح دولة المراحل الانتقالية الثورية مباشرة بالثورة نفسها، بالحدث الذي ينتزع "مؤقتاً" البشر من مكانتهم الاقتصادية التقليدية ومن علاقاتهم الروتينية ببعضهم البعض في الإنتاج الاجتماعي ويضعهم في مواجهة صريحة وعنيفة. في المراحل الثورية أما أن تكون الدولة وسيلة تقدم الثورة أو وسيلة توقفها. دكتاتورية البروليتاريا ضرورية ليس من جانب أن العلاقات الإنتاجية الجديدة قد ظهرت الى الوجود وهي بحاجة لبنية فوقية سياسية تتناسب وتتطابق معها ومن ثم دولة تتطابق وتتناسب معها، بل من جانب أن البرجوازية تقاوم حتى النفس الأخير. الدولة الآن مثل الحزب، مثل الجيش الثوري والمليشيا الجماهيرية وسيلة للتقدم في قضية النضال الثوري وتغيير توازن القوى السياسية. ولهذا ليس من المناسب استخدام خصائص الدولة "التقليدية" لتوصيف دولة المراحل الانتقالية. وهذا الحكم ينطبق على دولة الطبقات الثورية وأيضاً على الدول الرجعية البرجوازية.
لقد كشفت الأقسام المختلفة من اليسار الإيراني، سواء طوال ثورة ١٩٧٩ وحتى اليوم أيضاً، عن عجزها في فهم هذه النقطة، في تحليل الدولة البرجوازية الحاكمة. فقد تصورت أن عليها، في اتخاذ موقف "ماركسي" مقابل الجمهورية الإسلامية، أن تحلل "الأسس الاقتصادية الخاصة" لها ورأينا كيف أن هذه "الماركسية" شبه الأكاديمية كانت تحدد في كل فترة معينة واحدة من الشرائح الاجتماعية من قبيل "البرجوازية التجارية"، "البرجوازية الصغيرة التقليدية"، و"بقايا الإقطاعية" وغيرها وإعطائها ثقلاً ومكانةً في فهم دولة الجمهورية الإسلامية. لقد دخلت دولة الجمهورية الإسلامية الميدان بمثابة دولة البرجوازية في "المرحلة الثورية"، أي دولة البرجوازية المنظمة بصورة ثورة مضادة، لحسم مصير الثورة وقد أغلق اليسار الإيراني عيونه عن هذا المحتوى البرجوازي المكشوف للدولة وراح يتعقب الشرائح والفئات "الثانوية" في المجتمع في تفسير الخصائص الطبقية والممارسة السياسية للدولة. نحن اعتبرنا هذه الدولة، وبسبب دورها الحيوي بالنسبة لكل البرجوازية في مرحلة ثورة ١٩٧٩، دولة البرجوازية والبرجوازية-الإمبريالية. ولم تعجب "يساريتنا" هذه اليسار الإيراني، ومع هذا وبعد بضعة سنوات من ذلك وحين اتسعت مديات القتل والقمع لدرجة بحيث صار الآخرون على استعداد اعتبار الجمهورية البرجوازية برجوازية، وجدوا مجدداً مأخذاً علينا وهو لماذا استنتجنا الطابع البرجوازية للجمهورية الإسلامية من "السياسة" فقط ولم نفضحها بوصفها التنظيم السياسي لـ"الرأسمال الاحتكاري"! وفي كلا الحالتين، يشكل التفسير "الاقتصادي" للدولة محور تفكير اليسار الإيراني. في حين تشكل الدولة في المراحل الثورية المنظم للثورة المضادة بيد البرجوازية وأداة حيوية بيد البروليتاريا لتنظيم الثورة والتقدم بها. وعلى "الاقتصاد" انتظار تقرير مصير الثورة. إن شخصاً مدركاً لـ"جوهر النظرية الماركسية حول الدولة"، عليه فهم العلاقة المباشرة للدولة بالصراع الطبقي الظاهر. والالتصاق بـ"الاقتصاد"، في هذه المراحل، يبعد الشخص بوضوح عن الماركسية والفهم الماركسي.
إن نموذجاً آخر لهذا الفهم الميكانيكي والاقتصادي هو أسلوب تعامل منظمة (الوحدة الشيوعية) وموقفها من الدولة الديمقراطية الثورية (سواء في رؤيتنا أو في مواقف لينين في عام ١٩٠٥)، فهي تدعي بما أن "الدولة هي أداة بيد الطبقة السائدة اقتصادياً" على هذا الأساس فإن الدولة الديمقراطية الثورية هي مجرد يوتوبيا ذلك أن الاقتصاد مادام رأسمالياً، فإن هذه الدولة هي بالضرورة أداة بيد الطبقة "السائدة" اقتصادياً وإذا لم يكن الاقتصاد رأسمالياً، فإن هذا يستلزم الثورة الاشتراكية وتنتفي قضية الدولة الديمقراطية. ويهاجمون من هذا المنظار الثورة الديمقراطية والدولة الثورية ويفضلون البقاء في المعارضة مادام الاقتصاد رأسمالياً ويهاجمون لينين لأنه أبتدع فكرة الدكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين. دكتاتورية طبقتين غير ممكنة، ذلك أن "اقتصاد" طبقة واحدة على أية حال هو ما يحدد طابع الدولة! وهذا هو العجز عن فهم مفهوم الدولة في المراحل الثورية.
على أية حال سأتناول هذه النقاط فيما بعد بدقة أكثر. وفي هذه المقدمة من الضروري التذكير بالموضوعات التالية:
أولاً: المادية التاريخية لا تعني فقط معرفة تعدد أساليب الإنتاج، وقوانين عملها وتسلسلها التاريخي. بل إن جزءاً مهماً من المادية التاريخية، خصوصاً الجزء الذي يجد في العنصر الثوري طابعاً عملياً أكثر حسماً، هو تحليل المراحل الانتقالية الثورية الفاصلة بين أساليب الإنتاج هذه، أي كافة تلك المراحل الثورية التي تلازم هذه التحولات الجذرية. المراحل التي يظهر فيها البشر بقدرة أكبر في تقرير مصيرهم. هذا الجزء من المادية التاريخية، الذي اختص القسم الأساسي من كتابات ماركس وانجلز ولينين السياسية في تحليله، يختفي على الأغلب في فوضى التصنيفات التحريفية لـ"العلوم الاجتماعية". وتبتذل المادية التاريخية على يد هؤلاء الى سرد تاريخي ميتافيزيقي لتاريخ أساليب وأنماط الإنتاج.
ثانياً: بقدر تعلق الأمر بقضية الدولة، فإن للمراحل الانتقالية الثورية أهمية حاسمة. وهنا تتحول الدولة مباشرة الى وسيلة لحفظ أو كسب السلطة السياسية، بوصفه هدفاً آنياً مباشراً. لتحليل الدولة في هذه المرحلة، ينبغي العودة لا الى ميدان الاقتصاد، بل الى ميدان صراع الثورة والثورة المضادة بالدرجة الأساس. وتجد الدولة فلسفة وجودها في هذا الميدان ويقيّم طابعها الطبقي بهذا المعيار.
ثالثاً: لدولة المرحلة الانتقالية، وكذلك "الدولة الاعتيادية"، تعريف عام مشترك. الدولة قوة قمع خاصة للقمع الطبقي. الدولة "الاعتيادية"، أي الدولة في مجتمع في حالاته "الروتينية" وغير المتأزم، هي وسيلة الطبقة السائدة اقتصادياً وتتميز من هذه الناحية بجملة من الخصائص المحددة. أما الدولة في المرحلة الثورية فهي تجيب على قضية الثورة. حيث تشكل في يد البرجوازية أداة تنظيم القمع المضاد للثورة وتشكل في يد البروليتاريا والشرائح الثورية وسيلة تنظيم قوى القمع الثورية. وعلى أية حال تكتسب الدولة في هذه المرحلة خصائص جديدة وفي نفس الوقت تفقد جزءاً من ملامحها التقليدية والمألوفة، أي ممارساتها وأشكال وجودها في المراحل الروتينية غير المتأزمة.
رابعاً: النظرية الماركسية حول الدولة، لا تأخذ بنظر الاعتبار فقط الظروف العادية والمألوفة، بل تقدم فهماً واضحاً عن الدولة في المراحل الانتقالية، الدولة في المراحل الثورية بالمعنى الواسع للكلمة. علاوة على ذلك، بإمكان النظرية الماركسية حول الدولة أيضاً تحليل عملية تحول الدولة الاعتيادية والمألوفة الى دولة مرحلة ثورية وبالعكس، وفهم خصائص هذه العملية. ويشكل هذه جانباً من جوانب النظرية الماركسية حول الدولة الذي ينبغي اكتشافه في الكتابات السياسية للقادة الماركسيين، أي الكتابات التي كتبت بالدرجة الأساس في قلب الظروف الثورية.
|