الديمقراطية بين الادعاءات والوقائع
حوار جريدة انترناسيونال مع "منصور حكمت"
انتر ناسيونال:
مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الكتلة الشرقية، يكثر الحديث في كل مكان عن انتصار الديموقراطية. يُقال بان الديموقراطية ترسخت لاول مرة في التأريخ في ١٧٠ بلداً. وكدليل على هذه المسألة، يوردون الانهيار المتتابع للدكتاتوريات العسكرية في بلدان أمريكا اللاتينية في السنوات الأخيرة، و وصول بعض الأنظمة الجديدة إلى السلطة نتيجة لانتخابات عامة في بعض بلدان أوربا الشرقية وكما حدث مؤخراً في أفريقيا. كيف تنظرون إلى هذا الحدث؟ وهل إن ما حصل يمثل حقيقة انتهاء الدكتاتوريات العسكرية والأنظمة القمعية التوتاليتاريا؟
منصور حكمت:
يبدو ان الحديث عن انتصار الديموقراطية قد تلاشى مؤخراً؛ وقد أعربت عن وجهة نظري حول هذه المسألة خلال السنتين أو الثلاث سنوات الأخيرة في مجرى المناقشات الحامية حولها. "ان عصر انهيار الأنظمة الديكتاتورية" لم يكن حتى في تلك الأيام سوى عبارة جوفاء، تحمل الكثير من الأوهام يرددها الساسة الليبراليون والمثقفون المعترضون في البلدان المتخلفة وبلدان الكتلة الشرقية؛ وكان ذلك دليلاً على نشوتهم لانتصار الغرب على الشرق وحيث كانوا يأملون في الحصول على نصيب لهم. وقد تبين وفي وقت مبكر جداً بأنه ليس هناك شيئاً من هذا القبيل، وكمثال على ذلك، أذكركم بأن دعاة الجمهورية الإيرانيين كانوا يستعدون للسير نحو طهران والاحتفال بمناسبة حلول هذا العصر جنباً الى جنب "الرئيس رفسنجانى"، وهاهم اليوم يعدون خسائرهم. على أي حال، تأثرت بهذا المعنى هذه الفئة وكذلك جزء من المحرومين سواء في الغرب أو الشرق أو كما يقال في الجنوب، ببدائل اليمين الجديد وترقبوا أفق النظام العالمي الغربي والأمريكي الجديد. ان هذه الأوهام قد ضعفت هذه الأيام. وقد تبين بأن انتهاء الحرب الباردة لا تعنى توسع الحرية والحقوق الإنسانية أو السلام والسعادة الاجتماعية بل بالعكس، فالعالم يشهد حوادث مأساوية خلال الثلاث سنوات الأخيرة وعدم استقرار سياسي واجتماعي في كل أنحاءه.
صحيح ان عدداً من الأنظمة العسكرية قد اختفت بشكل عام في امريكا اللاتينية وحلت محلها أنظمة مدنية. ولكن هذا، بحد ذاته، لا يوضح شيَاًَ عن تشديد أو تخفيف القمع والاستبداد في تلك البلدان. فلم تكن تلك الأنظمة العسكرية الشكل الوحيد أو السائد للقمع السياسي، وفي اكثر الأحوال لم يؤد احلال الأنظمة غير العسكرية محل الأنظمة العسكرية الى تغير يذكر في سلوكها، بل وحتى في هياكل أنظمتها. وفي ما يتعلق بالتوتاليتاريا، أي مراقبة كل النشاط السياسي والثقافي وإحكام السيطرة عليه من قبل أجهزة الدولة، فأنه مع بروز الأنظمة الإسلامية وتطور السلطة الرسمية للكنائس في مختلف البلدان يمكننا ملاحظة حدوث توسع في بعض جوانب هذه الظاهرة في العديد من الأنظمة.
ان ما حدث في بعض البلدان حيث حلت بعض الأنظمة غير العسكرية محل الأنظمة العسكرية والذي حصل غالباً حسب برامج وخطط الدول العسكرية، هو نتيجة لمجموعة من العوامل الاقتصادية في هذه البلدان وكذلك نتيجة لاضمحلال التأثير الاجتماعي للأنظمة العسكرية قبل ان تكون نتيجة لضغط الاتجاهات المطالبة بالحرية في هذه البلدان. ان المعضلة التاريخية لهذه البلدان هي التطور الاقتصادي بشكل عام. كان من المقرر ان تكون الجوانب الإيجابية للأنظمة البرجوازية العسكرية في هذه البلدان هي القضاء على التشرذم السياسي في صفوف الطبقة الحاكمة، ترسيخ الاستبداد، القمع الدموي للطبقة العاملة وبالتالي تكوين القاعدة والأرضية السياسية والاجتماعية المناسبة لزيادة أرباح رأس المال ورفع التنمية الاقتصادية. وفي الوقت الراهن، أصيبت استراتجية التطور الاقتصادي بالفشل بشكل عام. و الآن، فأن الجميع يترقب آلية السوق، وبشكل اساسي، حرية حركة رأس المال. لقد أصبحت الأنظمة العسكرية سبباً لتصاعد الاستياء العام و لعدم الاستقرار السياسي، دون ان تتمكن من معالجة وحل أية معضلة من معضلات برجوازية هذه البلدان حتى ولو لفترات قصيرة.
على أية حال، فأن الديموقراطية، وبالمعنى الذي يقال بأنها انتصرت في الوقت الراهن، لا تتناقض مع أطروحة الاستبداد والقمع، بل يعني فقط شكل من أشكال هيئة عامة من المندوبين المنتخبين في انتخابات عامة (ليس بالضرورة ان تكون حرة). ان ذلك افضل دون شك من السلطة السافرة للجيش والشرطة، ذلك ان الدعاية البرجوازية بحرية المجتمع سواء من الناحية السياسية أو الفكرية ستوفر الى حد ما أجواء من الحرية للطبقة العاملة والفئات المضطهدة ومناصري الحرية. ولكن هذا الأمر لا يصل الى حد يستحق الرقص والاحتفال. ان الخصائص الرئيسية للأنظمة البرجوازية في بلدان آسيا، أفريقيا وأمريكا اللاتينية هي ارتكازها بشكل رئيسي على المنع أو التضييق الجدي على الحركات والمنظمات العمالية والاشتراكية، التضييق على حرية التعبير، النشاط السياسي، التنظيم وحرية التعبير عن الاستياء، وجود الأجهزة العسكرية والبوليسية المتسلطة وفوق القانونية، وجود وزارة عدل طيعة بيد السلطة، انعدام الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين، كون التعذيب ظاهرة طبيعية، وجود أحكام الإعدام، وباختصار فأن حرمان المواطن وكونه أسيراً أمام سلطة الدولة لا يزال باقياً كما هو. بإمكاننا ان نقوم بإحصاء كل هذه البلدان والحكم عليها بدءاً من آسيا الجنوبية والشرقية وصولاً الى أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
وفي الحقيقة، إنني لعلى استعداد لقبول انتصار وقيام الديموقراطية في الوقت الراهن في ١٧٠ بلداً، أي في جميع تلك البلدان التي يتلقى فيها أفراد معينون أجورهم الشهرية من دخل الشعب بوصفهم مندوبين في الهيئات العامة. وان هذا ليشمل بدون شك ليتوانيا واستونيا ولاتفيا، التي يحرم نصف سكانها من حق التصويت لمجرد كونهم يناجون أطفالهم باللغة الروسية وكذلك مصر والأردن وإيران وكوريا الجنوبية ومؤخراً الكويت، وكينيا وبلدان أخرى. لا يمكن ان يكون الطبق اشد حرارة من الطعام الموجود فيه. فأذا ما كانت الأوضاع السائدة في العالم هي الديموقراطية بعينها من وجه نظر الديموقراطيين، حينذاك يتوضح بأن معضلة الجماهير لم تكن حول هذه الديموقراطية، بل تكمن في النضال من اجل الحرية والمساواة، ان إحصائيات القمع السياسي، الاعدامات وحملات التعذيب، وتلك القوانين والتعليمات التي تحدَُ من، بل وتصادر حقوق الفئات المختلفة، الفقر والتشرد والحرمان من المأوى والموت والفناء جوعاً او بسبب سوء التغذية في سنوات انتصار الديموقراطية. ان كل ذلك لايعطى حكماً ايجابياً حول العالم الذي تسود فيه الديموقراطية.
انترناسيونال:
هناك فهم مختلف و تحليلات متعددة حول الديموقراطية، فما هي الديموقراطية حسب رؤيتكم؟
منصور حكمت:
لااعتقد بأنك تقصد ضرورة قيامي بتحليل حول الديموقراطية "الواقعية" و"الاصيلة". ان الديموقراطية لا تشكل مقولة اساسية في منظومتي الفكرية كفرد اشتراكي وماركسي. اننا نتحدث عن الحرية وهي مقولة اساسية لنا، ولكن الديمقراطية وكما اوضحت في السابق، تمثل تحليلاً طبقياً خاصاً وفهماً تأريخياً محدداً لمفهوم الحرية التي هي اكثر شمولاً منها. ان الديمقراطية هي المقولة التي قام جزء من المجتمع البشري، وفي فترة تأريخية محددة، عن طريقها، بقولبة وحصر مفهوم الحرية الاوسع والاشمل. ولذلك، فأن بأمكان طرحي للديموقراطية ان يكون فقط طرحاً موضعياً وتأريخياً. بأمكان أي فرد ليبرالي او ديموقراطي، أي الفرد الذي تشكل الديموقراطية احدى امنياته واهدافه، ان يطرح فهما (داخلياً) وذاتياً لهذه المقولة، اذ يمكنه ان يقوم بتوضيح ما تعني الديموقراطية من وجهة نظره وما لاتعنيه. ولكن يجب على الماركسي ان يوضح الديموقراطية من حيث معانيها ألتأريخية وتأثيراتها الاجتماعية.
ان الديمقراطية، وليست كموضوع لهذا الكتيب او ذاك، بل بوصفها حقيقة يواجهها افراد المجتمع المعاصر، هي حصيلة ظهور الرأسمالية، انها رؤية البرجوازية لمسألة الحرية. واني لااقصد مطلقاً بأن هناك فهماً وحيداً للديمقراطية، وان البرجوازية – تأريخياً – هي التي طالبت لوحدها بالديمقراطية او انها حللتها لوحدها. بالعكس ان الديمقراطية، وخاصة على مدى حياة الجيلين السابقين، كانت في اغلب الاحيان هدفاً للطبقات المضطهَدة، وقد فسرت وحللت من قبل اصحاب الفكر والحركات المختلفة لهذه الطبقات والفئات بأشكال مختلفة. ولكن ذلك لايثبت بأن هذا المفهوم ليس برجوازياً. بل انه يبين هيمنة النفوذ الايديولوجي والترمينولوجي البرجوازي على النضال من اجل الحرية والتحرر. ان المجتمع البرجوازي تمكن من احلال مقولة الديموقراطية محل الحرية والنضال في سبيلها، وبهذا تمكن من وضع الحدود النهائية لهجمة الطبقات المضطهدة التحررية، ومن التحديد المسبق لشكل انتصارها؛ انكم تناضلون من اجل الحرية وستحصلون بعد "الانتصار" على البرلمان و "البلورالية" أي التعددية.
ان وجود اراء مختلفة، وحتى اراء طبقية مختلفة حول الديمقراطية جعلتها من اعقد المقولات واكثرها غموضاً في قاموس المصطلحات السياسية. فقد تحدث الساسة والحركات المختلفة، ولايزالون، عن الديموقراطية بأهداف ومصالح مختلفة، بل ومتضادة بين حين واخر، وهم بالتأكيد لايعنون شيئاً واحداً. وقد اطلق اسم الديموقراطية على الاوضاع السياسية المتباينة من قبل الاتجاهات المختلفة وقد كان ولايزال وجود لهذه التحليلات المختلفة بدءاً بالتحليلات المعادية للشيوعية وتحليلات الحرب الباردة وصولاً الى تحليلات الانسانيين المناصرين للحق. ولكن بأمكاننا ان نتعرف على ونعرف المحتوى المشترك والموضوعي لكل اشكال الديموقراطية والنضال من اجلها، والتي تكمن خلف كل هذه التحليلات، ونميزها مثلاً عن الاشتراكية والنضال من اجل الحرية الاشتراكية. ولكن نفس مفهوم الديموقراطية، وبهذا الشكل العام، لايوضح لنا شيئاً في الميدان السياسي وليس بأمكانه مساعدتنا على تمييز الحركات والاتجاهات الاجتماعية، الا ان بامكان تلك الصفات والسوابق والملاحق التي تلصق بألديموقراطية ان تستحوذ على معنى اوسع، كألديموقراطية الليبرالية والديموقراطية الشعبية والديموقراطية البرلمانية او الديموقراطية النيابية (Representative) او الديموقراطية المباشرة او الديموقراطية الغربية و... الخ. ان هذه التعابير مفهومة تماماً من الناحية السياسية وبألامكان تعريفها وتبيان خلافاتها وفي اغلب الاحيان توضيح تناقضاتها، وكذلك تحديد الحركات والقوى التي تناصر كل منها وغالباً تجزئتها وتمييزها عن بعضها بشكل تام.
انتر ناسيونال:
سنعود الى هذه الخلافات فيما بعد. ومن المناسب ان نتحدث بشكل خاص عن الديموقراطية الغربية والبرلمانية الليبرالية. ولكن من الافضل، في البداية، ان نستطلع ذلك المحتوى المشترك والموضوعي الذي ذكرت بأنه يقف بأية حال خلف كل النظرات المختلفة للديموقراطية، كيف تُعَرِفْ ذلك؟.
منصور حكمت:
بأمكاننا ان نشير بهذا الصدد الى بعض المكونات. اذا لايسعنا، دون شك، ان نتحدث هنا اكثر من ذلك.
كانت الديموقراطية، بمعنى سلطة الشعب، نظرة قد برزت خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، في مواجهة السلطات الملكية المطلقة وتلك السلطات التي تأسست على الاساس الملكي و سلطة الكنائس المسيحية وفي مواجهة انظمة تلك المرحلة التي تستمد شرعيتها الايديولوجية و سلطتها من مصادر معزولة عن الشعب والمجتمع، اذ كانت البرجوازية تتجه نحو التطور والتوسع وكان الشعب والاتجاهات المناصرة للحق والخير تأمل بحكومات تنبثق من صفوفها. من الواضح ان نفس هذا المطلب يكتنفه الكثير من الغموض، كما بينت ذلك نضالات القرنين اللاحقين وحتى يومنا هذا. اولاً، ماهي الكيفية التي يجب ان يكون عليها الشكل العملي لتدخل الشعب في السلطة السياسية والدولة وثانياً، من هم المقصودون بدولة الشعب؟ فحتى في عصرنا الراهن لايشمل "الشعب" جزءاً كبيرا، بل وفي بعض الدول الديموقراطية تستثنى الاكثرية منهم، كالنساء والزنوج والمهاجرين. وليست ببعيدة تلك الفترات التي كان فيها الانسان الاجير (العامل) لايعد جزءاً من الشعب حسب منظور العملية الديمقراطية. وقد كان كلا هذين الميدانين، أي تركيب السلطة والعلاقات العملية للشعب مع سلطات الدولة ومسالة مدى شمول هذه الديموقراطية لفئات الشعب المختلفة، ميداناَ رئيسياً للنضال السياسي، وكنتيجة لذلك النضال تغيرت المعالم و السمات العملية للديموقراطية في نفس المجتمع الاوروبي والامريكي الى حد كبير.
ولكن لمفهوم الديموقراطية، على اية حال، واقع موضوعي يتمثل برفض تلك السلطة التي تستمد وجودها من فوق المجتمع او تلك السلطة التي يجهل الجميع مصدرها. فالمنظور و التفكير الديموقراطيان لايكتفيان برفض قوة السيف و وراثة النبالة والنبوة والامامة وماشابه ذلك من الاباء والاجداد كمصدر للسلطة السياسية، وعدم الاعتراف بشرعيتها، بل انهما يعتبران ان السلطة التي ليس بالامكان عزلها بشكل عام، حتى وان استمدت وجودها من الانتخابات، سلطة غير ديموقراطية. وبعبارة اخرى، ان الافكار الديموقراطية والنظام الديموقراطي مهما كان شكل وجوده يعتبران سلطة الدولة هي السلطة التي تنبثق من الشعب وتجيب عليه ويجب ان يكون بألامكان عزلها بأي شكل من الاشكال. وان مسألة مدى كون هذا الادعاء ضمن هذا المنهج الديموقراطي او ذاك، وفي هذه الدولة تلك، ادعاء فارغاً او واقعياً، هي في الواقع مسالة اخرى. ان أي شكل من اشكال الديموقراطية تؤيد بأية حال الاستناد بشكل ما الى رأي الشعب في مسألة تحديد الدولة.
والنقطة الثانية والاهم، هي ان الديمقراطية، بحد ذاتها، عمياء تجاه البنية الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية. وبعبارة اخرى، ان الظروف الاقتصادية الراهنة، دور الدولة، موقع ومكانة الافراد في الانتاج، وعلاقات الملكية، انقسام الشعب الى طبقات وفئات متمايزة… الخ، الهيئات والاجهزة الادارية والسياسية الراهنة، ان كل ذلك، من وجهة نظر الديموقراطية، هو واقع حال ويبقى كما هو. فالنضال من اجل الغاء شرط التملك للمشاركة في الانتخابات البرلمانية مثلاً هو حركة ديموقراطية، ولكن الملكية نفسها و علاقة فئات الشعب المختلفة بالملكية ليست محل تساؤل، بأمكانك ان تطالب، من وجهة نظر الديموقراطية، بمشاركة النساء في القوات العسكرية الامريكية المرسلة الى الخليج دون ان تكون لك اية علاقة مع دور هذا الجيش وعملياته، او ان تحتج ضد ال (CIA) بسبب قلة وجود افراد من الهنود الحمر في هيئاتها العليا. ان تقسيم الشعب الى شيعة وسنة ومسيحيين في لبنان مثلاً، والمطالبة بعد ذلك بقيام دولة تضم كل هذه الطوائف، ورغم كونه سبباً في نشوب واحتدام المواجهات والاقتتال بين افرادها، هو موقف ديموقراطي. وتعني مطالبة الديموقراطية الصناعية مثلاً والى حد تعلق الامربها، بتلك الصلاحيات للاتحادات العمالية تعني تقبلها انقسام الشعب الى عمال واصحاب عمل كفرضية مسبقة، وهي تنظر اليها ضمن منظومتها، كحالة ابدية وخالدة.
وهكذا يتبين بأن عدم اخذ العلاقات الاقتصادية وانقسام الشعب الى طبقات مختلفة في المجتمع بنظر الاعتبار لايعني بأن الديموقراطية تنحصر ضمن الاطار السياسي فقط، وان النضال الديموقراطي هو مسألة سياسية فقط. بل بالعكس، فأن ذلك يعني بأن مجمل الاسس الاقتصادية للمجتمع الراهن، أي الملكية البرجوازية والانتاج الرأسمالي بكل ابعاده الاجتماعية قد اخذت من قبل هذه الافكار والحركات، واصبحت الاساس الاجتماعي للديمقراطية. ان الديمقراطية هي نظام سياسي، او المطالبة بنظام سياسي على اساس اقتصادي اجتماعي رأسمالي. ان المطالبة بالديموقراطية تعني سواءاً على الصعيد النظري اوعلى الصعيد الواقعي والتأريخي المطالبة ب "رأسمالية ديموقراطية".
وبأختصار، فأن المحتوى المشترك والموضوعي للديموقراطية و النضال الديموقراطي هي انه في كل مرحلة، وبأفتراض مسبق، علاقة اجتماعية رأسمالية وللسيادة الاقتصادية والسياسية والفكرية للطبقة البرجوازية، والمطالِبة، على ذلك الاساس، بضرورة انضمام اقسام متزايدة من الفئات والاقسام الموجودة في المجتمع الى القاعدة الشكلية والحقوقية للسلطة السياسية. وعلى الصعيد العملي، هي التعبير الذي تطلقه فئة معينة على حركتها عندما تحاول الاحتجاج على حرمانها القانوني او الواقعي من حصة المشاركة في صناعة القرار. ان السمة العامة والمشتركة للديموقراطية لاتتجاوز ذلك برأيي.
فالديموقراطية ليست بحد ذاتها وضعاً او نظاماً سياسياً او دستوراً محددا، وهي ليست خاصة بشخص ما. ولكنها حركة دائمة للفئات المُهمَلة من اجل الوصول الى الحقوق التي يتمتع بها الاخرون تجاه السلطة السياسية. وكذلك الحال، فأن محتوى الديموقراطية يربط بالتالي بمسألة كونها تصدر من قبل اية فئة وفي أي مجتمع وفي أي اوضاع سياسية. فالرأسمال الخاص وفي صراعه مع البيروقراطية الادارية والصناعية والحكومية في الكتلة الشرقية يطالب، وبلسان ناطقيه في الغرب والشرق، بأفساح المجال له للمشاركة في السلطة السياسية. وهو يطلق على حركته، سواء في الغرب او في نفس الكتلة الشرقية، بالنضال الديموقراطي. ويطالب السود في جنوب افريقيا بحق المشاركة، وبصورة متساوية، مع البيض في الانتخابات، انهم يطالبون بالديمقراطية أيضاً. ولكن الافق والاهداف الاجتماعية لهاتين الحركتين تختلفان اختلافاً كبيراً.
انترناسيونال:
أنتم تقولون بأن الديموقراطية هي عبارة خاصة بالفئة التي تطالب بفتح ابواب السلطة المنغلقة بوجهها. أو بتعبير أخر، تطوير وتوسيع القاعدة ألقانونية للسلطة، وذلك لمشاركة فئات متزايدة فيها. وهذا مايضفي الطابع المشروع والضروري على الديموقراطية في اوساط الرأي العام، أي الحرية الفردية وحرية الفرد في التدخل في شؤون المجتمع. والسؤال هو ما الذي يعيب هذا الامر؟ او ماهو النقص في ذلك برأيكم؟
منصور حكمت:
ان توسيع القاعدة القانونية والشكلية للسلطة السياسية، والعبارة التي قلت فيها (مشاركة فئات متزايدة في السلطة والحرية الفردية وحرية الافراد في التدخل في شؤون المجتمع) ليست أمراً واحداً أبداً. أكيد ان مايضفي الشرعية على الديموقراطية، بل ويجعل منها كلمة مقدسة في العرف السياسي الشعبي والاجتماعي المعاصر هو انهم يجعلون من التوسع القانوني والشكلي لافساح المجال امام الفئات الاجتماعية المختلفة للمشاركة في السلطة ومن الحرية الفردية وحرية أي شخص في التدخل في شؤون المجتمع تدخلاً واقعياً يجعلون منها امراً واحدا. انها ليست كذلك. فيما يتعلق بالكيفية التي عرفتم بها الديموقراطية، والذي هو في الواقع تعريفاً للديموقراطية الليبرالية، وتساؤلكم عما يعنيه، فأنني سأتحدث عن ذلك لاحقاً.
ان النقطة الرئيسية التي اشرت اليها في حديثي، هي ان الديموقراطية، و بدون مقدمات و ملاحق، ليست اكثر من صيغة ومطالبة سياسية في اطار الرأسمالية من اجل مشاركة فئات فئات اجتماعية في العملية الحقوقية لتكوين الدولة وفي السلطة السياسية.
وهي، وبهذا المعنى، لاتزال لاتبين حتى نظاماً ومنهاجاً سياسياً خاصاً للمجتمع. انها ليست المطالبة بالمساواة او منح المزيد من الحرية للفرد او "للشعب". ان كل بلدان العالم، عدا قلة قليلة منها، وبغض النظر عن مدى الحريات المدنية فيها، تعتبر نفسها بلداناً ديموقراطية، ذلك ان بأمكانها ان تقيم عملية شكلية وقانونية يشارك فيها الشعب في تحديد الدولة. واستناداً الى تحليل الديموقراطية الليبرالية، فأن أعداداً كبيراً من هذه البلدان، مثلاً الحكومات المدنية والبرلمانية المؤيدة للغرب في امريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، لم تكن، وليست ديموقراطية. واستناداً الى الديمقراطية الشعبية، ليست الديمقراطية الليبرالية نفسها ديمقراطية، ولكن ذلك يبين اختلاف فهم الليبرالية، وديموقراطية الحرب الباردة (وهي الديموقراطية الغربية كما سيشير الى ذلك في مكان اخر – المترجم) والشعبية الفوضوية، الاشتراكية الديموقراطية، والتكنوقراطية …الخ، حول الديمقراطية، وليس عدم واقعية الديمقراطية في هذا البلد أو ذاك.
وبالتالي فأنني اكدت على اننا كأشتراكيين، وقبل ان ندخل هذا السوابق واللواحق في حديثنا، نتناقض تماماً مع ذلك المحتوى المشترك الذي يقف خلف تلك النظرات، أي القبول بهذا الاساس الاقتصادي الراهن وابتذال مسألة التحرر السياسي الى مشاركة الافراد او "الفئات" في العملية الشكلية والقانونية لتكوين السلطة. ان الديمقراطية، ومن خلال النظرات المختلفة الراهنة، هي آلية لاظهار وتصوير السلطة الطبقية البرجوازية المعزولة عن الجماهير، كسلطة شعبية و اضفاء الطابع الشرعي عليها.
اذكركم اولاً؛ ان انتصار الديمقراطية على الانظمة المستبدة الاوروبية لم تؤد ابداً الى مشاركة الافراد في تحديد السلطة. وحتى بنفس المعنى الشكلي، ان المواطن الذي كان يحق له التصويت حتى بعد مرور عشرات السنين كان الرجل الابيض (الحر) مالك الارض أو رأس ألمال، بينما كانت مشاركة العمال والنساء وحمر البشرة واشخاص من هذا الطراز لم يكونوا يمثلون جزءاًَ رئيسياً من تعريف الديمقراطية ولم يولدوا معها، بل كان نتيجة للنضال العادل للطبقات و الفئات المختلفة في تلك المجتمعات الديمقراطية القائمة. ذلك النضال الذي تقدم تحت الرأية الفكرية والسياسية للحركات الاخرى كالحركات الاشتراكية، وحركة المرأة المطالبة بألمساواة و الحركة المعادية للتفرقة العنصرية والحركة القومية وحركات أخرى، والتي سارت على العموم بشكل غير ديمقراطي وغير قانوني.
ثانياً؛ ان عبارة الديمقراطية، وبالمعنى الخاص للكلمة، هي تماماً كالاستقلال والحكم الذاتي، أي لايشترط فيها ان تكون مترافقة مع التوسع المتزايد للعدالة الاجتماعية والمساواة او حتى الحرية الفردية. ان الديمقراطية، الاستقلال و… الخ هي تلك القوالب السياسية والادارية المحددة التي يمكنها ان تتخذ لنفسها محتويات مختلفة. فلم يكن واضحاً، ومنذ بداية استقلال بنغلاديش او ليتوانيا وطاجيكستان او الباسك، ان كان ذلك الاستقلال سيؤدي الى تطور حقوق الانسان والرفاه والمساواة الاجتماعية في تلك البلدان. وليس معلوماً، بشكل مسبق، حينما يقوم نفس الكرواتيين والصرب والبوسنيين بتأسيس دولتهم وحسب الخطط المرسومة، هل سينعم الانسان المتوسط بحياة افضل او اسوأ في المنطقة الجغرافية التي كانت تسمى سابقاً بيوغسلافيا. والحقيقة ان ما حدث في كثير من الحالات التأريخية المعاصرة، ومنها ما حدث في أيامنا هذه، هو ان الكثيرين من الذين كانوا يتمتعون بشبه حق قد فقدوه تحت راية الاستقلال والحكم الذاتي "وحكومتنا الخاصة بنا".
ويصح ذلك ايضاً على الديمقراطية بالمعنى الخاص للكلمة، أي الديمقراطية بدون سوابق و لواحق. ففي أيامنا ااراهنة، وفي كثير من البلدان الاسلامية، من المحتمل جداً ان يقوم أي برلمان منتخب واي استفتاء جماهيري بتثبيت مكانة المرأة في القانون كمواطنة من الدرجة الثانية، بل واسوأ من ذلك. أَوَ لم يصوت الرأي العام ومجلس النواب الامريكي والبريطاني، وفي الحقيقة كل أوروبا الديمقراطية، على إرسال الجيوش الى الخليج ومشاركتها في عمليات الإبادة البشرية هناك؟ وفي إيران، أَلم يصوت أكثر من تسعين بألمئة، وفي استفتاء عام، لصالح الجمهورية الإسلامية؟ وفي الجزائر، كاد إن يحصل الشيء نفسه، الا انه قد منع في حينه. أَلا تقوم البرلمانات الحرة في أوروبا وكل الاستفتاءات الجماهيرية في تلك الدول، وبكل سهولة، بالتصويت على سحق ومصادرة الحق الأساسي لسكان العالم في تغيير محلات سكناهم واستقرارهم، وحقهم في الانتقال الى الاماكن التي يرغبون بها؟ ان مثل هذه القرارات لا تتفق مع النزعة الانسانية والنضال التحرري والمساواتي ومع الكرامة الانسانية، ولكنها تنسجم مع الديمقراطية وعملية الديمقرطة. ان الديمقراطية هي وعاء قانوني لعملية اتخاذ القرار و ليس نمطاً ومعياراً لمحتوى القرار نفسه.
ان الديمقراطية في حد ذاتها تعني حكومة الشعب، وكما أسلفت، فأن هذه المقولة قد تبلورت بوجه الانظمة الدينية والارستقراطية والملكية المتخلفة؛ وان مسألة تحديد رؤية أي مجتمع من المجتمعات التي تسود فيها الديمقراطية، الى الحرية الفردية، العدالة الاجتماعية، المساواة الانسانية، حقوق الانسان وماشابه ذلك ليست مسألة الديمقراطية نفسها، بل انها ترتبط بصراع التقاليد الفكرية والسياسية للطبقات الاجتماعية المختلفة في المجتمع. إن الكثير من المطالب التي أُلحِقَتْ اليوم بالديمقراطية كسيادة القانون، رعاية حقوق الانسان، الحريات المدنية والفردية والعامة وما شابه ذلك، لا ترتبط، بالذات، بأي شكل من الاشكال بالديمقراطية، بل جاءت بتأثير العديد من الميول والتقاليد الفكرية والسياسية الخاصة كالليبرالية و الاشتراكية.
انترناسيونال:
هل تقصدون بأنه ليس للديمقراطية مفاهيم خاصة ومستقلة في مجال الحقوق والحريات الفردية والمدنية او في مجال سلطة الشعب؟.
منصور حكمت:
ان المسألة هي انه ليس لدينا أي رأي عن الديمقراطية بمعزل عن تلك الحركة و ذلك المنهج الذي هو بصدد الحديث عنها. فالمباديء الذهبية للديمقراطية لم تدون بشكل مستقل عن المناهج السياسية في أي مكان؛ وعلى الورق، كان فهم المنهج الليبرالي للديمقراطية هو المنهج السائد والاكثر انتشاراً. اقول على الورق، لان الواقع هو انه خلال الردح الاعظم من القرن العشرين وحتى الاونة الاخيرة، كانت حياة الجزء الاكبر من سكان الكرة الارضية تحت تأثير فهمين اخرين للديمقراطية: احدهما فهم الحرب الباردة (الديمقراطية الغربية) والذي هو رغم قرابته مع الفهم الليبرالي لايجوز مطلقاُ ان نعتبرهما شيئاً واحداً. والاخر، الفهم الشعبي "الديمقراطية الشعبية" أي ذلك الفهم الذي كان يشكل رؤية وتحليل الجماهير الواسعة في البلدان الخاضعة والمتخلفة للديمقراطية. تختلف مفاهيم هذين المنهجين حول السلطة السياسية والحقوق المدنية والحريات الفردية عن بعضهما اختلافاً كبيراً. فطوال مرحلة مابعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، او في اغلبها، وفي الوقت الذي كانت الديمقراطية الغربية والديمقراطية الشعبية في اطراف العالم تستلان السيوف بوجه بعضهما البعض بسبب الخلاف على المعنى العملي للكلمات بالنسبة للجماهير، في هذا الوقت بالذات، كانت الديمقراطية الليبرالية في المراكز الثقافية والمنظمات الخيرية ومنظمات حقوق الانسان تسجل اخطاء الجانبين في سجلاتها الخاصة.
وكما قلت، فأن المشترك بينها جميعا ومايشكل حكماً مستقلاً ومحتوى موضوعياً للديمقراطية هو اعتبارها لعلاقات الانتاج الرأسمالية وتأسيسها لالية حقوقية لمشاركة الشعب (وبأيّ تعريف كان) في عملية تحديد وتغيير الدولة، أساساً لها. لقد حددوا الديمقراطية نفسها بحكومة الاكثرية و ليس بقيام مجموعة من المعايير والقيم والحقوق المحددة، وكان دمج هذه المعايير الخاصة بمفهوم الديمقراطية هو عمل المناهج والحركات السياسية المختلفة. وقد قامت به الليبرالية، الاشتراكية، المحافظين، والفوضوية والمناهج الاخرى جميعاً.
ليس هناك من شك في انه وفي ظل الديمقراطية كنظام، اعتبر تدخل الفرد والفئات الاجتماعية في شؤون الدولة أمراً عادلاً، وقد توفرت فرصة أكبر للحركات الاجتماعية المختلفة مقارنة بأشكال الانظمة غير الديمقراطية لكي تطبع المجتمع بطابعها، ولكي تناضل من اجل التغييرات التي تنوى تحقيقها. ولكن هذا بحد ذاته لا يعرف بذاته سمة المجتمع. فليس شرطاً أن يكون المزيد او القليل من الحرية الفردية أو"العامة"، المساواة والعدالة الاجتماعية عدم مصادرة حقوق الانسان..الخ، نتيجة للعملية الديمقراطية. ان الحريات السياسية والعدالة الاجتماعية ليست نتيجة لذات العملية الديمقراطية، ولكنها نتيجة لتلك الحركات و القوى الاجتماعية التحررية والمناضلة من أجل العدالة التي تمكنت عبر التأريخ، سواء خلال عملية ديمقراطية أو خارجها، من تغيير ميزان القوى الاجتماعية لصالحها ولصالح أهدافها و تحويل جزء من هذه الاهداف الى قانون وعرف. وقد حدث كثيراً، كما شاهدنا خلال الثمانينات حيث تطورت التاتشرية وكما نشاهد اليوم تطور القوى الفاشية والعنصرية في ميدان السياسة البرلمانية والاوربية، فأن بأمكان العملية الديمقراطية، وعلى الاقل بعض الاشكال المحددة منها، ان تصبح سبباً لتطور وحتى لتقوية القوى الرجعية والمستبدة والمعادية للانسانية.
ان تلك الرؤية الذهبية التي تطرحها الرأسمالية في الايدولوجية الرسمية وفي دعايتها السياسية حول الديمقراطية والتي يكون الفرد فيها حراً وطليقاً، وتكون الحقوق السياسية للانسان مضمونة بشكل ما، هي رؤية تستند الى التفسير الليبرالي (والى حد ما الاشتراكي الديمقراطي)، للديمقراطية. هي بالنسبة للكثيرين رؤية نظرية ومجردة حول الديمقراطية، وعندما تدمج مع خصائص حياة الطبقة المتوسطة في بلدان اوروبا الغربية وامريكا، اضافة الى ذلك، عدم وجود التعصب، والاستعداد الثقافي الاكبر، الذي وجد في هذه البلدان، وبدلائل مختلفة، وكنتيجة لهذا، تتكون نظرة خيالية حول الديموقراطية. فمثلاَ، عندما يطالب مثقف ايراني أو روسي أو مصري… الخ بالديمقراطية، فأنه انما يطالب بهذا التصور. ولكن ذلك هو الدعاية المثبتة على الصندوق. ومن الواضح بانه حتى واذا ماكان محتوى ذلك هو نفس مايعلنونه فعلاً، فأننا كعمال وشيوعيين لنا انتقادات جذرية حولها أيضاً. اننا ننتقد الليبرالية ومنظورها للحرية. ان الديمقراطية الليبرالية تشوه طموح الانسان للحرية، وهي صياغة من اجل تجزئة الانسان بوجه الرأسمال في الميدان السياسي ولاضفاء الشرعية على ديكتاتورية الطبقة الرأسمالية المعزولة عن الجماهير. ان هذا هو جانب أساسي من بحثنا حول الديمقراطية الذي علينا اعلانه للمجتمع بشكل منظم.
ولكن بُعد هذا النموذج الليبرالي عن الحقيقة لايتجسد فقط في انماط الديمقراطية المصدرة فحسب، بل وفي البلدان الغربية المتقدمة أيضاً. أذ ان الديمقراطية العملية، أي الديمقراطية الموجودة فعلاً هي أقل شأناً حتى من تلك ألرؤية ألليبرالية المخادعة. وفي كثير من الحالات مثلاً، عند استعمال هذا المصطلح اثناء الحرب الباردة ضد الكتلة الرأسمالية المنافسة او في الحرب الدعائية ضد الاشتراكيين والماركسيين في البلدان الغربية، كانت الديمقراطية، تعني قدسية الملكية الخاصة والسوق. وان احدى اسس التاتشرية، مثلاً، كانت عبارة عن تصوير المراكز والهيئات العمالية بأنها عامل لتحديد الديمقراطية والحرية الفردية "وذلك من اجل الرضوخ لكل عمل ولكل وضع". وقد كشفت التقارير، ولمرات عديدة، عن استخدام اجهزة التعذيب في مراكز الشرطة في الدول الغربية. و وجود التجمعات غير الرسمية من وراء ظهر الدولة وفوق المجالس لتحديد سياسات الدولة والمحاكم السرية والمحاكم الصورية، الهيئات والمؤسسات السرية والمسلحة لاحكام السيطرة على الجماهير، وكذلك وكالات الانباء والصحافة التي اوصلت فن الترهيب والاستفزاز والتحميق الى اقصى مدياته بالاستفادة من الثورة في مجال التكنيك والشكل، فالمجاميع والعصابات اليمينية من حاملي الهراوات المدعومة من قبل الدولة والمرتبطة بالشرطة، والمختصة بأخضاع الفئات المحرومة واليسارية في المجتمع، وعشرات المراكز والهيئات والاعراف قد جعلت من الحقوق والحريات الفردية وحقوق ألإنسان مهزلة في نفس المجتمع الغربي. إن الانسان ذا المستوى المعاشي المتوسط في هذه البلدان، والذي من الواضح إن أوضاعه أفضل من أوضاع البقية في بلدان العالم الاخرى، هو انسان محروم من الحقوق بشكل رهيب ويعيش في حالة من الرعب وهو منعزل وغير قادر على التدخل في تقرير مصيره.
إذا ما اردنا التحدث عن مفاهيم و مقولات الديمقراطية حول الحقوق الفردية والاجتماعية…الخ، فأنه يجب أما ان نتحدث بشكل محدد حول المناهج المختلفة وتصوراتها حول الديمقراطية، وهذا ما يؤدي بنا الى الحديث عن الديمقراطية الليبرالية والنظام البرلماني، او القيام بتقييم الديمقراطية من خلال تأثيراتها المحددة في التأريخ المعاصر. وفي كلتا الحالتين يجد الماركسي نفسه في خندق المنتقد للديمقراطية سواء كمفهوم او كواقع حال.
|