الأمة، القومية وبرنامج الشيوعية العمالية
الجزء الثالث: الأممية والمعضلة القومية
كنا قد أكدنا في الأجزاء السابقة على نقطة معينة وهي ان المقولات والصيغ التي استخدمت تقليدياً في البرامج الشيوعية تجاه الأمة والمعضلة القومية ليست عاجزة عن الأجابة على المسألة فحسب، بل كانت مدعاة للغموض ومظللة على نحو جدي. فصيغة حق الأمم في تقرير مصيرها ليست بمبدأ غير قابل للتعميم الشيوعي ولا غير تحرري فحسب، بل هي بالمعنى الدقيق للكلمة، خرافية وغير قابلة للفهم. فالمقولة المحورية في هذه الصيغة، اي مقولة الأمة، هي من الأساس انتقائية، أيديولوجية وأسطورية. ان شرط اكتساب الموقف الشيوعي للوضوح تجاه الأمم والمعضلة القومية، هو أن نتخلص بالدرجة الاولى من تلك الصيغة.
تكمن المشكلة الأساسية على الصعيد النظري في هذه الصيغة في كونها اولاً: تفترض الأمة كمقولة عينية وذات أعتبار. وتفرض الهوية القومية كاحدى السمات الموضوعية للجماهير. ثانياً، تبرز المسألة بشكل ضرورة معترف بها أو تبرزها ظاهرياً كاستعادة لحق طبيعي ذاتي لهذا الموجود (الأمة). أن حق الأمم في تقرير المصير، وعلى هذا الأساس، يرتقي خطئاً الى مستوى مبدأ انساني وتحرري عالمي الشمول وغير قابل للانكار. فالفهم الاولي لاي شيوعي حُمِلَّ بهذه الصيغة هو ان حق الأمم في تقرير المصير، أي اقامة دولة مستقلة من قبل الأمم المختلفة، يعد لديه مبدءاً معتبرا مثل المساواة بين المرأة والرجل وحرية التعبير والتنظيم و الاضراب أو حق الطلاق. انه تعبير ينطوي على خلل بنيوي هو دليل على تقدم عقائدي مهم بالنسبة للحركة القومية. على الصعيد العملي، يكمن اشكال هذه الصيغة في انها اولاً: على الرغم من كل المساعي والجهود لم تعط هذه الصيغة حتى الآن تعريفاً مفيداً حول الأمة كي يمكن معرفة اصحاب هذا الحق في المراحل المختلفة للمجتمع المعاصر. وثانيا، ان أياً من التيارات والمدارس المدافعة عن هذه الصيغة، سواء الاشتراكية منها أو القومية، لم تكن مستعدة حتى الآن للوصول بهذا البحث الى نتيجته العملية المنطقية والدفاع عن امتلاك كل الأمم لدولها، بنفس التعريف الذي تعطيه للأمة. فادبيات المنافحين عن صيغة حق الأمم في تقرير المصير مليئة بالملاحظات والعبارات التي تضع العديد من الأمم خارج دائرة شمولها بهذا الحق وتحت حجج مختلفة.
على البرنامج الشيوعي، وفيما يخص القضية القومية، ان يحرر نفسه من هذا التعبير القومي، وان، يتجه، مباشرة، ومن دون تحير واختلاق للغموض نحو اساس المعضلة مثلما هي موجودة بشكل واقعي. على البرنامج الشيوعي، وقبل كل شيء، ان يطرح القضية بشكلها الصحيح. يجب ان يكون واضحا، لماذا يهتم بمقولة الأمة والانتماء القومي والقضية القومية وعلى اية مشكلة يبغي ان يرد. على البرنامج ان يستند في طرحه الى مقولات ومفاهيم واقعية وقابلة للتعريف، وان تكون تجاه مسائل قابلة للتحديد في العالم المادي. على البرنامج توضيح استنتاجاته تجاه القضية موضوع البحث، سواء الى أي مدى مبدئي وعالمي الشمول والى اي مدى سياسي ومشروط بزمان ومكان وظروف معينة.
من المبادئ الى الاستراتيجية
ان الجزء الاكبر من بحث الأمة والمعضلة القومية يأتي في الادبيات الشيوعية كخليط من المبادئ العقائدية من جانب، ومن الملاحظات التاكتيكية والاستراتيجية من جانب آخر. وفي الكتابات المختلفة، لم بتم فصل هذه المسائل عن بعضها بشكل دقيق بالضرورة. بيد ان هذا الفصل هو أمر حياتي. أن المسألة التي يجب أن تتضح هي انه من بين الأحكام الماركسية المختلفة تجاه الأمة والحركة القومية والقضية القومية وحق الانفصال وغيرها، أي أحكام تقف بوضوح بعض الاحيان بوضوح في تناقض صوري ازاء بعضها البعض، ايها هو تعبير عن المبادئ الشيوعية والبروليتارية الثابتة وغيرها القابلة للنقض وايها يعكس المصالح التاكتيكية والنضالية المرحلية للحركة؟
بالنسبة للماركسية والشيوعية العمالية، وخلال تعاملها مع كل معضلة الأمة والمسألة القومية، يوجد لديها عدد من المبادئ العقائدية الأساسية والتي هي شاملة وغير قابلة للنقض ومستقلة بشكل تام عن الزمان والمكان والمرحلة التأريخية ومسار نضج المجتمع والحركة الطبقية. هذه المبادئ هي عبارة عن:
١- لا وطن للعمال. تقف كل من الحركة القومية والأممية العمالية في مواجهة صريحة ومطلقة مقابل بعضهما، ولاتقبل المجابهة بينهما التوفيق أو المساومة وان القومية هي ايديولوجية برجوازية تقف عائقاً أمام الوعي الطبقي والأممي للطبقة العاملة.
٢- تناضل الشيوعية من أجل محو الحدود القومية والغاء الهوية القومية. المجتمع الشيوعي هو مجتمع خال من الفصل القومي بين البشر.
٣- ان الظلم القومي والتمييز القائم على اساس انتماء البشر الى قوميات مختلفة، هي من المظاهر والاشكال البارزة لانعدام المساواة بين البشر في المجتمع الطبقي ويجب ان تطوى صفحة هذا الظلم. ان الغاء الظلم القومي وضمان المساواة بين جميع البشر بعيدا عن الانتماءات القومية هو أحد الاهداف المباشرة للحركة الشيوعية للطبقة العاملة.
من البديهي ان هذه المبادئ يتوجب درجها في البرنامج الشيوعي. وهذه المبادئ تشكل اساس موقف الشيوعية تجاه الأمة والانتماء القومي والظلم القومي.
من نفس زاوية النظر هذه، يتضح ان حكم حق الانفصال، أو ما يصطلح عليه بحق الأمم في تقرير المصير، لايشكل بالنسبة للشيوعية رديفاً لهذه الاحكام والمبادئ الاساسية. ليس هذا فحسب، بل هو ينفي هذه المبادئ. وهكذا فان الحديث هنا يدور حول ايجاد حدود قومية وفصل قطري جديد، حدود وفصل تطالب الشيوعية والأممية العالمية بالغائهما من جميع جوانبهما كمبدأ اساسي. اذن، وطبقاً لهذا الوصف، لماذا يتحدث الشيوعيون عن الاعتراف بحق الانفصال، بل احياناً حتى عن المطالبة السياسية به في هذه الظروف الخاصة او تلك؟ وكيف يتم التوفيق بين هذا الموقف و تلك المبادئ؟
الجواب هو ان حق الانفصال بالنسبة للشيوعيين ليس مبدأً نظرياً، بل هو وسيلة في ميدان السياسة. فالاعتراف بحق انفصال الأمم – الذي سابحث لاحقاً شروطه وحدوده من وجهة نظر الماركسية – ليس ناشئا من المبادئ، بل هو احدى الروافع العملية لدفع ستراتيجية الثورة العمالية في ظروف وأوضاع معينة للرأسمالية المعاصرة.
وبعد، فاننا في ميدان العمل والنضال السياسي لانصل، مباشرة، ومن دون مقدمات، الى مقولة حق تقرير المصير. المبدأ العملي والتاكتيكي للماركسية في العالم المقسم راهناً الى بلدان واقوام هو اعطاء الارجحية لاطر البلدان الاكبر على الاصغر، سواء كانت قومية أو غير قومية. بعبارة أخرى، ان حق الانفصال، وحتى في مجال التكتيك، يواجه مبدئاً اعم وأكثر اساسية. وكل هذا يعني ان حق الأمم في تقرير مصيرها، أو بمعنى أدق انفصال الأمم واقامة البلدان المستقلة، ليس ناتجاً عن المبادئ الماركسية، أو بالاحرى، ليس جزءاً من هذه المبادئ، بل هو من حبث الجوهر استثناء على تلك القواعد والمبادئ، ونتيجة لظروف سياسية واجتماعية محددة تؤدي الى اجبار الشيوعيين على التراجع من مبادئهم النظرية ومعاييرهم السياسية العامة. ان رد ورفض مسألة حق المصير كمبدأ شيوعي من جانب والقبول المشروط به بمثابة اضطرار وتحت شروط معينة، هو برأيي المرتكز الأساسي والمهم لموقف شيوعي مبدئي تجاه هذه المسألة، فبحث مكانة حق تقرير المصير في الرؤية والبرنامج الماركسيين يجب ان يرتكز، وبخلاف النظرة السائدة التي تصوره كمبدأ اساسي للماركسية، على مسألة الاستثنائية التي تفرض الدفاع عن هذا الحق وحتى احياناً التوصية والمطالبه به.
وبعيداً عن الفروع التي قامت بعد ذلك في الأممية الثانية والاخص تجاه الحرب العالمية الاولى، بادخال القومية في اسس اشتراكيتها، أو الشيوعية الروسية من بعد ستالين التي رفعت الأمم والشعوب الى جانب الطبقات كمكونات ذات اعتبار وقائمة بذاتها في مسار التأريخ، فان كل التقليد الماركسي تجاه المعضلة القومية ينظر الى مسألة الاقرار بحق تقرير مصير كاسلوب سياسي في الاستراتيجية العملية للحركة الاشتراكية، وليس باعتباره احد الاسس النظرية. وعلى الرغم من كل ظلال الوضوح وحتى عدم الوضوح والغموض الذي يمكن ان يؤشر في اسلوب تعامل نفس ماركس او لينين مع هذه المسألة، الا ان المسألة التي لايرتقي اليها الشك في تعامل أي منهما هو التضاد الذي لايقبل المصالحة بين القومية والأممية باعتباره مبدأ عقائدي، في الوقت الذي يكون فيه الاعتراف بحق الأمم في تقرير مصيرها حجراً في الاستراتيجية العملية للحركة.
ان صيغتنا تنبع من الناحية المنهجية من هذا التقليد، ولكن الاجراء العملي لها و نطاق شمولها محدود بشكل اكثر مما وصل اليه كل من ماركس ولينين في عصرهما. وهذا بسبب من انه اولاً، قد طرأ اختلاف شديد على الملامح القومية للعالم وعلى مكانة الأمة والقومنة بين عصر ماركس ولينين ومنذ عصر كل منهما حتى عصرنا. ثانياً، تختلف مكانة القومية وموقعها بشدة في العملية التأريخية في كل مرحلة. ثالثاً، تتفاوت بشدة علاقة المواجهة بين الاشتراكية والقومية وكذلك موازين القوى بينهما ونوع التقائهما مع بعض في الساحة الاجتماعية اليوم، ويختلف ايضاً بشدة وتوجد اختلافات جدية في ضروراتنا التاكتيكية الراهنة مع تلك التي كانت في كل في المرحلتين السابقتين. ورابعا وأخيراً، برأيي من حسنات تأخرنا زمنياً، هو اننا نملك امكانية ان نضيف مقولات و توضحيات الى البحث والتي تمنح الموقف الشيوعي دقة وسلاسة اكثر ويمكن ان ترفع وتزيل بعض الغموض. وبشكل محدد، فان الاسلوب الذي نعرف به نطاق انطباق هذه الصيغة يختلف مع اسلوب كل من ماركس ولينين.
الجانب التأريخي
لقد عاش ماركس في بداية عصر القومية. ولكن تلك القومية لم تكن نفس القومية الراهنة او قومية عصر لينين. فالمجرى الاساسي لقومية ذلك العصر لم يكن غير قومي فحسب، بل كان ادغام أمم متعددة في اطار واحد يشكل مضمونه. وان مسار القومنة وتشكيل البلدان في عصر ماركس لم يكن مساراً لتملك كل الأمم والاقوام لبلدان ما، بل كان عبارة عن تشكيل الاقتصاديات الرأسمالية القومية القابلة للاستمرار في اوروبا وانهيار النظام القديم. هناك من يدعي ان لديه وثائق يعتبر ان فيها ماركس وانجلز مبدأ القومية أو بالعبارة التي شاعت بعد ذلك، حق تقرير المصير، حقاً لكل الأمم. ولكن موقف ماركس وانجلز الاوضح والاكثر بروزاً هو فصل الأمة عن القومية، والأمم التاريخية عن الأمم غير التاريخية، اي الأمم التي كانت لها فرصة واقعية لايجاد بلدانها بحكم الظروف الموضوعية خلال عملية التنامي المستمر للمجتمعات الصناعية والرأسمالية. ان نطاق شمول موقف ماركس وانجلز هو في الواقع أمر محدد بشكل اكبر بكثير من المعنى الذي تعطيه عبارة كل الأمم. ان الحديث يدور حول المسار الموضوعي لتشكيل وقيام البنى القومية–القطرية الراسمالية القابلة للاستمرار في اوربا ولايدور حول حق كل التركيبات القومية في العالم باقامة بلدانها. فماركس وانجلز يرفضان ويردان بشكل صريح اعتبار الانتماء الاثني – القومي اساساً لاقامة بلدان مستقلة. وفي الحالات المعدودة التي وقف فيها ماركس بشكل مشخص مدافعاً عن استقلال أمم اصغر واكثر فرعية وغير تأريخية مثل ايرلندا وبولندا، كانت الخاصية السياسية لهذا الموقف من أجل تقدم ودفع الحركة الاشتراكية للطبقة العاملة واضحة بشكل صريح. فقد كان استقلال بولندا يوجه ضربة للرجعية القيصرية، وكان لاستقلال ايرلندا ان يوجه ضربة لحيازة بريطانيا الكبيرة للاراضي في حلقتها الضعيفة وكذلك يزيل عاملاً تاريخياً للنفاق بين الطبقة العاملة في انكلترا وامريكا.
اما مرحلة لينين فهي مرحلة اخرى. فعندما يتحدث لينين عن حق انفصال الأمم، اساساً كان يضع نصب عينيه الأمم المضطهدة في الامبراطورية القيصرية والمستعمرات والبلدان الخاضعة لسلطة الامبريالية. يكمن اهتمام لينين بالدور الايجابي لنضالات الأمم الصغيرة المعادية للاستعمار في المستعمرات في الضربة التي يوجهها لسلطة البرجوازية العالمية. ومن هنا، وبمعنى آخر ايضاً، نحن ازاء مسار موضوعي لتكون الأمم في قلب نظام قديم ورجعي، وضمن اتجاه تحول العلاقات الاقتصادية ونمو الرأسمالية على المستوى العالمي. نحن ازاء نوع من القومية لاتقف بشكل تام في مواجهة البروليتاريا والحركة العمالية فحسب، بل ايضاً تتخذ معنى لها بالوقوف في مواجهة الاستعمار والرجعية السياسية والاقطاعية. كان اهتمام لينين منصباً على القدرة السياسية لهذا التيار ونوع وشكل التقائه مع الحركة الاشتراكية للطبقة العاملة ومواجهته لها. وفي هذا الاطار السياسي، تتخذ مسألة حق تقرير المصير لدى لينين معنى لها. ولينين ايضاً يحدد ويقلل نطاق شمول هذا الحق. نجد ان صيغة حق تقرير المصير، لدى لينين، اكثر عمومية من صيغة ماركس وانجلز، ولكن، ومن الناحية العملية، وبفصله بين حق الانفصال وصلاحية الانفصال، انما يحدد علمياً دفاع الحركة الشيوعية عن انفصال الأمم بحالات معدودة. فتشخيص المطالبة بالانفصال أو التوصية وعدم التوصية به في صياغة لينين يستند تماماً الى تحليل الظروف المحددة.
ان مرحلتنا هي مرحلة مختلفة تماماً. فحتى قبل انهيار الكتلة الشرقية لم يكن هناك مسار يوسع ويؤثر باتجاه القومنة على الصعيد العالمي أو الاقليمي. فالحالات المتفرقة التي وجدت، أستطاعت وفي حدودها القصوى ان تغير الملامح القومية للعالم المعاصر بشكل جزئي وقليل الاهمية. والاهم من هذا، هو ان الحركات القومية كانت تفتقر لمحتوى اقتصادي خاص. وكانت التحولات من وجهة نظر الحركات القومية سياسية وثقافية بالاساس. وان مصدر نشوء هذه الحركات لم يكن يكمن في التحولات الجارية في الاقتصاد السياسي، مثلما كان الامر عليه ايام ماركس ولينين، بل يكمن بالاساس في الظلم القومي والثقافي وفي النزاعات القومية على السلطة. ولايقبل الاقتصاد السياسي والاستقطابات الاقتصادية والسياسة العالمية، ادنى درجة من التاثر بتلك النزاعات. والنماذج التي تواجدت في تلك المرحلة في ميدان بحث حق تقرير المصير كانت، بالاساس، عدة قضايا قومية لم تحل، مثل القضية الفلسطينية، القضية الكردية، القضية الايرلندية وغيرها والتي هي عائق، وبدرجات مختلفة، امام المسار الاعتيادي للاقتصاد الراسمالي في مناطقها أو انها تحولت الى عامل في عدم الاستقرار والاحتدام السياسي على صعيد اقليمي و عالمي. واصبحت بعض تلك القضايا ميداناً أوسع لصراع بين الغرب والشرق، ولهذا السبب اتخذت محتوى اكثر غموضا من الحالات الاعتيادية للصراع القومي.
ان سقوط الكتلة الشرقية، بمعنى آخر، اطلق مساراً للقومنة، وحتى أنه اصبح ذا محتوى مؤثر من الناحية الاقتصادية ايضاً. ان راسمالية السوق في القسم الاعظم من العالم الصناعي ونصف الصناعي، وخلال تداعي مجمل الابنية السياسية للنظام السايق وما رافقه من غياب اطار ايديولوجي مقبول للحكم، اتجهت لاحتلال الفراغ الذي خلفه نمط رأسمالية الدولة الذي وصل الى أفق مسدود. وانبرى نوع من القومية، بالاساس حركات قائمة على اساس قومي، مندفعاً نحو الساحة باعتباره مادة لبناء القاعدة الايديولوجية للحكم ولكسب الشرعية السياسية للدول البرجوازية الجديدة المنبثقة في اوصال الامبراطورية الزائلة. كل يوم نرى تبلور قضية قومية جديدة. ويتسع طرح بحث حق تقرير المصير بشكل فاق المألوف. الملفت هو ان المسار الذي يطرح قضايا قومية جديدة، نفسه، يجعل من حل القضايا القومية القديمة اكثر احتمالاً.
يوجد بون شاسع من الفروقات بين الظروف الراهنة والمراحل السابقة. فمجمل المسألة يجري ويتم خلال تراجع اجتماعي، سياسي وثقافي كبير. حيث تقوم الحركة القومية، وباحط واكثر اشكالها فساداً، برفع راية القضية القومية. وعلى عكس مراحل ماركس ولينين، ليس للقومنة الراهنة والهويات القومية التي يتم تصنيعها اية علاقة يالتقدم المادي للتأريخ في أي جانب من جوانبه. فرأس حربة النزعة القومية هذه يتجه مباشرة نحو صدر العامل والشيوعية وحتى الاصلاحية والليبرالية. ان التكرار البسيط لصيغة لينين بصدد استقلال المستعمرات وصيغة ماركس تجاه التقومن البرجوازي للقرن التاسع العشر لن يكون جوابا على قضايا اليوم. على الشيوعية والعمال اليوم ان يجيبا على المعضلة القومية الحالية بالشكل الذي توجد به الان. برأيي، يمكن الوصول بهذا المسعى الى طرح قابل للتعميم حتى على المراحل السابقة ويبين بوضوح أكبر الجوهر الثوري المنسجم لتعامل كل من ماركس ولينين مع المسألة ايضاً.
من الأمة الى المعضلة القومية
ان نفس وجود الأمة، أو افتراض وجود أمة ما، هو ليس اساساً لاي حق بالحكم. وان مقولة اية أمة بأي تعريف كانت، لها الحق في اقامة بلدها، وهي مقولة تفتقد الاساس العلمي والحقوقي والتأريخي. لم يكن ماركس ولينين، من الناحية العملية، بعيدين عن مثل هذا التصور للمسالة فحسب، بل انهما يفترضان انه في العالم الواقعي وخلال العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية بين الاقوام والأمم المختلفة، لن تكون كل الأمم في سعي من أجل ايجاد واقامة بلدانها، ولن يكون العالم في أي وقت عبارة عن سلة تمتلئ بالبلدان من كل وعلى عدد من الأمم الموجودة، سواء كان وجودها واقعياً أو مجازياً، وكذلك فإن الطمأنينة العلمية، من جانب، وعدم تشددهما العلمي في التحديد الادق لحدود ونطاق شمول حق الأمم من جانب آخر، أو عدم تناولهما بالنقد الحقوقي الاكثر جدية لمقولة الأمة، كل ذلك ساهم في هذا الامر.
ان وجود الظلم القومي، بحد ذاته، ليس اساساً للاعتراف بحق الانفصال واقامة بلد مستقل. فالاجابة الشيوعية على وجود الظلم القومي يكمن في النضال من أجل ازالة ذلك الظلم. هذا هو الاسلوب الذي تتخذه حركة الطبقة العاملة وكل الحركة المساواتية في ٩٩% من المجتمعات الموجودة للتصدي للظلم الواقع على الاقليات القومية. وان الاجابة النهائية للشيوعية هو القضاء النهائي على الظلم القومي عن طريق الغاء الرأسمالية والاستغلال والانقسام الطبقي بشكل عام. وليس الاعتراف بحق تقرير المصير وحق الانفصال، رافعة سياسية او شعارا تكتيكياً تجاه وجود الأمم والانتماء والتوهم القومي او حتى تجاه وجود الظلم القومي. هو وسيلة للاجابة على المعضلة القومية، وأن وجود الأمة والظلم القومي بحد ذاتهما ليس معادلاً لوجود معضلة أو قضية قومية. ان هذه مقولة اساسية في بحثنا. طبعاً، بدون الهوية القومية لايمكن للمعضلة القومية ان تبرز. وكذلك بدون الظلم القومي، أو تصور وجود الظلم القومي أو على الاقل التنافس القومي، فانه لن يكون للقضية القومية وجوداً خارجياً. هذه هي الشروط اللازمة لبروز القضية القومية في المجتمع، ولكنها ليست الشروط الكافية لها. بامكاننا التحدث عن وجود قومية عندما تكون تلك الهويات القومية المتواجهة والصراعات والتنافس والنزاع بلغت درجة من الشدة والاحتداد وتمتعت بخلفية وتأربخ معين، واصبحت مبعثاً للحساسية في عموم المجتمع بحيث جعلتها من ضمن القضايا المحورية في المجتمع. و تحولت الى قضية تتطلب الاجابة من قبل جموع الجماهير الواسعة ومن جانب الحياة الاقتصادية والسياسية للمجتمع. ان الاعتراف بحق الانفصال هو أحد الاساليب العلاجية، وهو جراحة اجتماعية في متناول الطبقة العاملة في مثل هذه الظروف. ولكن ان تكون قد وجدت معضلة لكي يمتلك مثل سبيل الحل هذا موضوعيته. يجب ان يكون قد وجد مرض عندها يدرج مثل هذا العلاج في قائمة الامكانات، ذلك العلاج الذي ظل بالنسبة للشيوعيين وبشهادة تاريخ مئة وخمسين عاماً مضت غير قابل للتوصية به في اكثر الاوقات.
حينما ننظر بدقة اكبر، نجد ان ماركس ولينين، وفيما يتعلق بحق الانفصال، لم يتناولا في الواقع كل التنوع القومي او حالات الظلم القومي التي لا تعد ولا تحصى، بل تناولا فقط القضايا القومية المفتوحة والمطروحة في العالم في عصرهما. ويجب كذلك فهم صياغتهما والحكم عليها في نفس الاطار.
ليس البرنامج الشيوعي وثيقة للترغيب بالأمم. وليس من المقرر ان تنتقض الطبقة العادلة لتقسيم كل بلد الى جمهوريات مستقلة حسب الأمم. من وجهة نظر الطبقة العاملة، فان الشكوى والاحتجاج على الظلم القومي لا يلقى اجابته باستفتاء انفصال فوراً، هو نصر عمالي، وليس عيداً للنزعة القومية. فالطبقة العاملة والبرنامج الشيوعي مكلفان بانهاء الظلم القومي وان يطرحا سبيل لتلك القضايا او المعاضل القومية التي تحولت الى معاضل واقعية في حياة الجماهير. يمكن ان يكون سبيل هذا الاعتراف بحق انفصال الأمة المضطهدة والتي تعاني التمييز.
وفي حالة ايران بشكل مشخص، فان القضية الكردية معضلة كردية مفتوحة ومطروحة. فالقضية اللورية أو لقضية الآذرية أو اية هوية قومية أخرى التي يمكن ان تبرز في هذه المرحلة أو تلك، كلها غير مطروحة بمستوى القضية الكردية اليوم في ايران والمنطقة. ليست لدينا الصيغة الاتية بحق الأمم في البلد المتعدد الاقوام في ايران في تقرير مصيرها. شعارنا واضح تجاه القضية الكردية هو: الاعتراف بحق انفصال جماهير كردستان واقامة دولة كردية مستقلة.
و بتثبيت وجود المعضلة القومية بمثابة شاخص موضوعية حق الانفصال، تزول مصاعب واختلاطات نظرية مهمة. اولاً، بدلاً من الميدان الذاتي والانتقائي الارادوي لتعربف الأمة ثم تقسيمها الى أمم كبيرة وصغيرة، معتبرة وغير معتبرة، وتأريخية وغير تأريخية، وذات صلاحية و غير ذات صلاحية، فانه يتم اتخاذ مسألة الموضوعية والقابلية على المشاهدة واللمس اساساً للتحليل، وهي وجود أو عدم وجود المعضلة القومية. ثم اننا لسنا مكلفين بقبول التعاريف المتنوعة للقوميين عن الأمة، لسنا مكلفين بالمشاركة بخلق وادامة الهويات القومية بقبولنا لها، لسنا مكلفين بالدخول في مناقشة رد أو قبول اوراق اعتماد القومية أو حتى بحث رد وقبول القصور التاريخي للصدام والصراعات القومية، ولسنا مكلفين بان نقسم القومية والقوميين الى جيد وسيئ، تقدمي ورجعي وغيرها. نحن مكلفون بالاعتراف بالوجود الموضوعي لمعضلة قومية في المجتمع، معضلة استقطبت الجماهير حولها بشكل جدي وتريد اجابة عليها. وهذا يعين و يحدد نفس نطاق شمول وتطبيق حق الانفصال والأمم التي تكون موضوعاً له ويغنينا عن كيفية المعايير الذاتية والتي تقوم في كل الاحوال على التعريفات والمقولات القومية. ويحدد نطاق شمول حق الانفصال في حدوده القصوى طبقاً لعدد المعاضل القومية في المجتمع في كل مرحلة، وليس طبقاً لعدد الأمم الموجودة الفعلي والمفتعل، ولا طبقاً لحالات الظلم القومي الواقع على الاقليات القومية. ثانيا، ان الاعتراف بحق الانفصال له جانب سلبي بالنسبة للطبقة العاملة الأممية، و ان منح الانفصال هو ليس اعادة الحقوق المستلبة من الأمم، بل هو قبول بانفصال جديد داخل المجتمع الانساني وتسليم بالحقيقة المؤلمة التالية وهي ان الحياة المشتركة على اساس تصاعد الانتماء القومي بين البشر غير ممكنة كثيراً. فالاعتراف بحق الانفصال من وجهة نظر أي شيوعي ليس تحقيقاً لمبدأ مقدس و تحرري، وله على سبيل الصدفة بعض التناقض مع الأممية العمالية، بل هو تسليم بواقع مر وجد في العالم الواقعي على خلاف الافكار والمثل الأممية العالمية. بالامكان الآن اعطاء الاجابة للأمم وادبائها وشعرائها بوضوح ومن دون أي تلكوء والتوضيح لهم، لماذا نحن بصفتنا عمالاً وشيوعيين نعتبر حقاً مع ضرورة تحديد اجراءه عندما نعترف بهذا الحق، فاننا عادة لانوصي الأمة ذات العلاقة بالانفصال. ثالثاً، يطلق هذا الطرح ايدينا في الاجابة على المعضلات القومية التي تنطوي على مضامين اقتصادية وسياسية متنوعة ومشخصات تاريخية مختلفة. وبعد، فاننا، وبصدد التعامل مع المعضلات القومية المطروحة في المجتمع، لسنا مكلفين بالخوض في احكام اخلاقية أو في الاحكام التاريخية الخاصة حول اصالة وصلاحية الأمم موضوع البحث، أو حول وجود وعدم وجود الظلم القومي وابعاده أو دور وازالة المعضلة في السير التطوري لتاريخ البشر. وحتى اننا لانضطر للوقوف الى جانب احدى الحركات القومية، وانقاذ المجتمع والطبقة العاملة في كلا جانبي الهوة القومية من النتائج السلبية لهذه المعضلة، وليس قصدنا استعادة الحقوق القومية لهذه الأمة أو تلك. فاتفه الصراعات والتناقضات القومية وأكثرها زيفاً وفقدانا للمحتوى، اذا ادت حقيقة الى الاستقطاب في المجتمع، فيمكنها ايضاً ان تتلقى الاجابة الواضحة من الشيوعيين. ان هذا الجانب ذو اهمية كبيرة خصوصا في مرحلتنا مع هذا المسار الرجعي والمنحط للقومنة الذي يجري الآن ويثقل على الجماهير بانواع المصائب.
على ان أهم وجوه اسلوب طرح مسألة هذا هو انه يضع الصراع بين الشيوعية والحركة القومية حول المسألة القومية وانفصال الأمم في مكانه الواقعي. ويوسع بشدة ميدان نشاط الشيوعية العمالية المناهض للقومية. يجب علينا ان نوسع هذا الاختلاف اكثر.
الحركة القومية والمعضلة القومية
من أين تنبع المعضلة القومية باعتبارها مواجهة اجتماعية على اساس الهويات القومية التي تتصاعد بحيث تطرح الانفصال السياسي بمثابة سبيل للحل؟ ان نفس وجود الهويات القومية المختلفة لايؤدي بالضرورة الى بروز معضلة قومية في المجتمع. فالامثلة كثيرة على التعايش المشترك دون مشاكل ونزاعات بين أمم مختلفة في اطار بلد واحد. كذلك فان وجود الظلم والتمييز القومي لايعادل بروز معضلة قومية على مستوى اجتماعي. ففي العديد من البلدان، وفي نفس الوقت الذي يكون فيه التمييز القومي واقعاً ملموساً وسبباً في مرارة حياة الأمم المضطهدة، في نفس الوقت وضمن العلاقات الاقتصادية والسياسية القائمة في المجتمع بقى، بالنسبة لافراد القومية المضطهدة، اقل اهمية من ان يصبح موجها لفرض صراع سياسي حاد. وان النضال من أجل الغاء ذلك التمييز لم يؤد في حالات كثيرة جدا الى بروز معضلة في ذلك المجتمع.
الحقيقة هي ان شرط بروز معضلة قومية هو ان تجد الحركة القومية، باعتبارها ايديولوجية وحركة اجتماعية، موطئ قدم لها في الساحة. فالاختلافات القومية وعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حسب الانتماء القومي هي تلك الوقائع التي يتم الوصول بها الى نتائج مختلفة على يد الحركات الاجتماعية المختلفة. حيث لاتتعامل كل من الليبرالية والشيوعية والاشتراكية الديمقراطية والقومية مع هذه الوقائع والامكانات بشكل واحد ومتساو. فالقومية في ذلك التيار الذي يسعى الى الاستفادة من هذه الفوارق والاختلافات لاضقاء تبلور سياسي ان القومية هو ذلك التيار الذي يسعى الى ربط هذه الاختلافات الفعلية والمفتعلة مباشرة بمسألة السلطة السياسية وايديولوجية الحكم.
لقد قلت فيما سبق، ان الحركة القومية ليست نتيجة لتعصب الأمم، على العكس، الأمم و تعصباتها هي نتيجة للحركة القومية. فالقومية، وبغض النظر عن مسألة في اية مرحلة وخلال اية مسارات تضع اقدامها في ميدان الاقتصاد السياسي، هي ايديولوجية برجوازية لتنظيم السلطة الطبقية. هي الايديولوجية التي تسعى لتنظيم الحكومة الطبقية البرجوازية بطريقة توجه فيها الناتج والتجسد السياسي للخواص والمشخصات الذاتية المشتركة بين اتباعها. والهوية القومية هي حجر الاساس لستراتيجية الحركة القومية في تنظيم الدولة الطبقية البرجوازية. وتصور دولة الطبقة الحاكمة كتجسيد خارجي للذات والهوية القومية المشتركة والماوراء طبقية لاتباعها، في الوقت الذي تكون فيه الهوية القومية لاتباع المجتمع تجسيداً داخلياً وانعكاساً ايديولوجياً قومياً للسلطة في اذهان اولئك. فالحاجة لتنظيم السلطة الطبقية البرجوازية هي التي تفرض اختراع مقولة الأمة والهوية القومية لدى الحركة القومية.
ان مسألة الدولة والسلطة السياسية وارتباطها بالأمة والهوية القومية هي مسألة محورية بالنسبة للحركة القومية. ويكمن دور الحركة القومية في خلق المعضلة القومية بسحب النزاعات والاختلافات القومية من الميدان الاقتصادي أو الثقافي الى ميدان السياسة ومسألة السلطة. والى الحد الذي لم ترتبط فيه الاختلافات وعدم التكافؤ و الصراعات والاحتدامات القومية صراحة بمسألة الدولة والحكم، فلن تبرز المعضلة القومية بالمعنى الخاص للكلمة. و وظيفة الحركة القومية هي ان تضمن هذا الانتقال الى ميدان السياسة وسلطة الدولة. ان المعضلة القومية، وقبل كل شيء، هي ناتج تقومن فلسفة سلطة الدولة في المجتمع. ان النزعة القومية للامة السائدة والاتيان بدولة كوسيلة لضمان السيادة القومية واعطاء الصفة القانونية للتمييز القومي هي المصدر الاساسي لبروز المعضلة القومية من جهات العالم الاربع. فالظلم القومي، بالمعنى الخاص للكلمة، هو مقولة سياسية. وان عدم التكافؤ الموجود في الامكانات الاقتصادية والثقافية بين أمم مختلفة في نظام لاتقوم فيه ايديولوجية الحكم على اساس القومية، قلما تحول الى صراع سياسي ومعضلة قومية في المجتمع. الا ان ممارسة القمع من قبل الحركة القومية السائدة لوحدها ليس منشأ ومجرى بروز المعضلة القومية. فوقائع السنوات العدة اوائل عقد التسعينات ثبت بوضوح ان الحركات القومية تملك القدرة في ظروف خاصة على اقامة اكبر الصراعات القومية على اساس ابسط الفوارق القومية واكثرها ثانوية. واذا كان بالامكان اعطاء صيغة عامة بصدد بروز المعضلة القومية بالمعنى الخاص للكلمة هو نتيجة لنشاط الحركة القومية وان المواجهات الحادة بين الحركات القومية المختلفة هي من العلائم البارزة لكل حالات المعضلة القومية. عندما تتبلور هذه المواجهات عملياً وبتصاعد النزاع على السلطة تحت راية الهويات القومية المختلفة بين الاقسام المختلفة للبرجوازية، عندها لا يمكن للاساس الاجتماعي والثقافي للصدامات الاولية ان يوضح شيئاً حول الماهية والاساس الراهن للمعضلة.
ان المعضلة القومية هي ناتج الحركة القومية. ولكن حلها يقع على عاتق الاشتراكية العمالية. وان بحث الاعتراف بحق الانفصال هو وسيلة مهمة بيد الشيوعية والطبقة العاملة تجاه الازمة وانسداد الافق اللذين تخلقهما الحركة القومية والبرجوازية. و بهذا الاعتبار فان ادراج بحث حق الانفصال في البرنامج الشيوعي يعني الاعتراف بالقدرة التدميرية والمخربة للحركة القومية في العالم البرجوازي. فالاعتراف بحق الانفصال هو سلاح في النضال ضد الحركة القومية. ونحن بشكل خاص مدينون للينين بهذا الجانب من الادراك الماركسي تجاه المعضلة القومية. ليس الغاء التمييز والهويات الكاذبة والزائفة مجرد شعار ورغبة بالنسبة لشيوعية عملية، بل هو وظيفة ومهمة تضعها في جدول اعمالها. الشيوعية العملية هي التي تسعى لاجراء وتحقيق مبادئها في العالم الواقعي وازاء القوى الكبيرة التيارات البرجوازية. وان الاعتراف بحق انفصال الأمم المضطهدة كسبيل لحل المعضلة القومية والبرجوازية وفتح الطريق امام انقاذ جموع الجماهير العمالية والكادحة من التأثيرات المخربة للحركة القومية على اذهانهم وحياتهم.
في نفس الوقت يأتي هذا البحث بمعنى ان الاعتراف بحق الانفصال يمتلك موضوعيته عندما تكون التيارات القومية قد احرزت تقدماً ملحوظاً وحولت خرافاتها الى قوة مادية في المجتمع. وعلى الاخص عندما تكون قد جرت هذا الامر الى ميدان الصراع النشط في الساحة السياسية. ان الحركة القومية ما زالت تمكث في حدود الثقافة وابراز الوجود الثقافي، الحركة القومية التي مازالت في الأمة ذات العلاقة، سواء السائدة او المسودة، تياراً هامشياً وجماعة ضغط صغيرة، فهي لاتتجه نحو الانتقال الى بحث حق الانفصال هو علاج لمرض عارض عمليا، وليس لقاحاً او جرعة لتقوية ودعم المعضلة القومية. الوجه الآخر لهذا البحث هو ان المعضلات القومية الموجودة من الممكن ان تكون متأتية من مرحلة سابقة خلال المسيرة التاريخية او تأتي معضلات جديدة وتدخل الساحة السياسية، فالتفاوت القومي الذي لم يتحول بعد الى معضلة سياسية واجتماعية محورية، يمكن ان يصبح كذلك في ظرف عدة سنوات بهمة الحركة القومية. ان التشخيص المحدد للمسألة في كل حالة هو الشرط الضروري للمبدئية الشيوعية تجاه المعضلة القومية.
وتعمل صياغتنا المستندة على ربط بحث حق الانفصال بوجود المعضلة القومية بالمعنى السياسي للكلمة على مساعدتنا في التأكيد أكثر على مهامنا الشيوعية المناهضة للنزعة القومية قبل بروز المعضلة القومية. ان كلاً من النضال النشط ضد الظلم والتمييز القومي، الدعوة الى نضال شامل من أجل اقامة مجتمع متساو خال من التمييز، فضح الحركة القومية ومصالحها ومحتواها البرجوازي في كل طرفي الصراع القومي، الدعاية للهوية الطبقية المشتركة للعمال والهوية الانسانية المشتركة لعموم الجماهير ونقد نظرات التعصب القومي، كل هذه وظائف اساسية وحياتية للشيوعية ضد التحرك والافق القوميين. ان صيغة برنامجنا وبوضعها بحث حق الأمم في اطار معين وضمن حدود شموله وتطبيقه المحدود والواقعي، فانها تعرف الحركة الشيوعية في حالة عداء لايقبل التنازل مع النزعة القومية وتدعو الى مواجهتها في اغلب الحالات، ان غياب هذه الوظائف يحرمنا من الوسائل السياسية الواقعية من أجل التدخل الواقعي في الازمات القومية في المجتمع.
بايجاز:
١. ان اساس برنامج الشيوعية العمالية ازاء الأمة والانتماء القومي، هو المبادئ الأممية العمالية كمناهضة للنزعة القومية والظلم القومي وتضع الغاء الحدود والهويات القومية الزائفة في جدول اعمال الحركة الأممية للطبقة العاملة.
٢. على البرنامج ايضاً ان يأخذ بالحسبان القوى المادية والمخربة للحركة القومية في العالم المعاصر وان يطرح سبيل الطبقة العاملة لحل الازمات والمعضلات في العالم المعاصر. وعلى البرنامج ان يعترف بحق انفصال الأمم المضطهدة بمثابة سبيل حل مشروع للمعضلة القومية.
٣. على البرنامج وفي اطار البلد الذي هو الميدان الاساسي لنشاط الحزب، اي ايران، ان يذكر تلك المعاضل القومية التي تستوجب تحديداً في هذه المرحلة المعينة تحقيق مبدأ حق الانفصال كحل لها. بأعتقادي يشمل هذا الحكم في الاوضاع السياسية الراهنة لايران، حالة كردستان فقط.
٭ ٭ ٭
قبل الانتهاء من سلسلة المقالات التي يجب الان التحقق من نقطتين اخريين. الاولى، هي قيمة وعدم قيمة مقولات الحكم الذاتي وغيرها في الاجابة الشيوعية على معضلة القومية. برأيي ان فكرة الحكم الذاتي، أي حفظ اطار البلد موحداً وتعبئة السلطات القومية الذاتية فيه، هي نسخة من أجل ادامة القومية والهوية القومية وزرع الصدع والصراع القومي في نخاع المجتمع. يجب رد و رفض هذا الطرح. النقطة الثانية، القيام بتحقق اكثر تشخيصا للمعضلة الكردية وسبيل الحل المقترح لها من قبل الحزب الشيوعي العمالي.
علينا التصدي لهاتين النقطتين في القسم التالي.**
• تمت ترجمة هذا الجزء عن الفارسية من المجلد الثامن للاعمال الكاملة. منصور حكمت، ص ١٦٣ الى ص ١٧٧ – المترجم.
** بهذا يصل هذا البحث الى نهايته من الناحية العملية. القسم التالي في سلسلة هذه المقالات لم ينشر. المترجم
تأليف: منصور حكمت
ترجمة: عمار شريف
hekmat.public-archive.net #0700ar.html
|