Status             Fa   Ar   Tu   Ku   En   De   Sv   It   Fr   Sp  

الحزب الشيوعي والعضوية العمالية

القسم الأول



مقدمة:

ليس هناك من شاخص وعلامة فارقة تحدد الطابع الطبقي للأحزاب والتنظيمات اليسارية ومكانتها في الصراع الطبقي القائم مثل العضوية العمالية وكميتها وكيفتها. أخيراً وبعد كل تلك الدعاية والتحريض والحركات الإحتجاجية، كل تلك المطالب والشعارات وكل تلك النشاطات التي تمارس ويقام بها بأسم العامل، يطرح خذا السؤال البسيط والواضح وهو هل تحتضن التنظيمات الإشتراكية العمال أم لا؟ هل يشكل العامل والإحتجاج العمالي الأفق الأصلي نشاطها بأسم العامل الوسيلة والإطار الفعلي للإحتجاج العمالي أم لا؟

خارج الحزب الشيوعي الايراني لاتشكل العملنة والتحول الى تنظيم العمال حتى ولو أولوية أو مبدئاً أساسياً لدى الكثير من التيارات المسماة بالإشتراكية. والكثير الكثير من تلك التيارات أزاحت فكرة الثورة العمالية. والبعض الآخر يشككون في وجود البروليتاريا بوصفها الطبقة المنتجة الأصلية في المجتمع. وتشكل الإشتراكية بالنسبة للكثير من تلك التنظيمات إطاراً عاماً للنزعة الإنسانية، النزعة الوطنية،الإستقلال الإقتصادي والتطور الصناعي، الديمقراطية وما شابه ذلك ولذلك هي لاتعتقد بشكل خاص بالحاجة لجر أقدام العامل والصراع الطبقي لهذه الميدان. والكثير منها أيضاً التي مازالت تشعر بحاجة للماركسية ومقولات من مثل البروليتاريا والصراع الطبقي من أجل مصالحها لاترى أية ضرورة في عملنتها والتحول الى تنظيم للعمال. ربما أن الأوضاع السياسية لاتسمح بذلك، ربما أن بروليتارية التنظيمات لاتعني بالضرورة عملنة الهيكل التنظيمي، ربما أن العمال ما زالوا لايتمتعون بالدرجة الكافية من"الوعي الطبقي". وأياً كانت الحجج والذرائع، فإن تاريخ الشيوعية في ايران وخصوصاً تاريخ المراحل الأخيرة خافل بالكثير من التنظيمات"البروليتارية" التي تتشكل بالدرجة الأساس وتتكون من الطلبة والمتعلمين من أبناء الطبقات الوسطى. وليس هناك من شك في أنها كانت تتعاطف كلها على الأقل مع العمال. وربما لو وصل أيِ منها الى السلطة، وهذا الأمر ربما سيكون نتاج صدفة تأريخية إذا ما أخذنا مكانتها الموضوعية التي هي على هامش الصراع الطبقي بنظر الأعتبار، قلنا لو وصل أي منها الى السلطة، ربما سيؤدي ذلك الى تحسس وإرتقاء في حياة وظروف عمل العمال في ايران. ولكن، ليس هناك ما يغير هذه الحقيقة وهي أن هناك الى جانب هذه التنظيمات وبالتزامن مع ممارستها"البروليتارية"، ثمة نضال طبقي يومي بدءاً من صك الأسنان والتلويح بالقبضات يومياً من قبل العمال وصولاً الى الإضرابات والحركات العمالية العلنية والواسعة النطاق، نضال يجري في صفحة أخرى في نفس المجتمع ولايتأثر بأقل تأثير مباشر بوجود ونشاط تلك التيارات.

ولايدور الحديث هنا عن وجود أو عدم وجود الأحزاب العمالية العظيمة. بل إن المسألة هي أن التنظيم الشيوعي، واياً كان طوله وعرضه، يجب أن يكون أولاً تنظيماً عمالياً وله صلة وثيقة بمحيط الإحتجاج العمالي. فإذا كانت تلك التيارات التي ليست بحاجة الى العامل من أجل إشتراكيتها قادرة على إبداء الكثير من اللامبالات، فإن على الناشط الشيوعي الذي يسعى لبلورة شيوعية عمالية مقتدرة أن ينتبه ويهتم من خلال مراقبته للأوضاع الموجودة بالتناقضات والمعضلات التي تتطلب منه وتستوجب إهتماماً جدياً.

ثمة معضلة تاريخية وإجتماعية تكمن من بحث الشيوعية العمالية. وهدف هذا المقال هو تحليل هذه المعضلة وطرح نتائج عملية لتجاوزها والرد عليها. وكتب هذا المقال على اساس البحث الذي طرحته قبل ثلاثة أشهر في ندوة لجنة التنظيمات المدن. وبتصوري فإن هذه الموضوعة هذ واحدة من المعضلات والإشكالات المهمة في تقدم الشيوعية العمالية سواء داخل الحزب الشيوعيى أو على صعيد أوسع داخل الحركة العمالية الايرانية وسيكون لنتائجها العملية إذا ما أتخذت وأستخلصت بشكل حازم ودقيق اثراً حاسماً فس تغيير الملامح السياسية والمكانة العملية للحزب الشيوعي الايراني. ومن الواضح أن بحث العضوية العمالية هو في خاتمة المطاف زاوية من هيكل أوسع وبحث اشمل للشيوعية العمالية. وموضوعة العضوية العمالية هي في النهاية ومع كل التحليلات والتفسيرات السياسية التي تجري بصددها، تعود الى قضية"العضوية" التي هي في خاتمة المطاف مقولة من مقولات النظام الداخلي. ربما سوف لن يكون للخطوات والإقدامات المحددة التي سيتم إستخلاصها من هذا البحث بحد ذاتها تأثيراً. ولكن ماأتمناه هو أن يترك هذا البحث تأثيره على رؤيتنا وتصورنا عن الحزب وأن يقوي الإنتقاد العام الذي أتحدث عنه تحت أسم الشيوعية العمالية.

بضع كلمات حول عملنة الحزب

منذ سنوات عديدة والحزب الشيوعي يضع نصب عيينيه هدف "العملنة" بشكل واعي. وقد سعيت طوال السنوات القليلة الماضية الى شرح وتوضيح مستلزمات هذا التحولناشطي الحزب وفعاليته. وإذا أردت التعبير بأختصار عن المحور الأساسي لكل هذه الأبحاث يمكنني القول: إن الشيوعية العمالية حركة إحتجاجية حية موجودة في قلب المجتمعات الرأسمالية تتعقب مسارها الخاص ومصيرها الخاص الى جانب وبموازاة الحركة التي تطلق على نفسها إسم الحركة الشيوعية. وتأسيس حزب شيوعي عمالي يعني تنظيم هذه الإشتراكية العمالية بمثابة حزب سياسي ماركسي، يعني تحزب حركة هي الآن موجودة ولكنها ضعيفة في تنظيمها الداخلي.

غير أن اليسار الموجود الآن لايقبل مثل هذا التصور. ولاتعني الحركة الإشتراكية والشيوعية بالنسبة له سوى تلك المجاميع والأحزاب السياسية التي تمارس نشاطها تحت إسم ألإشتراكية والشيوعية. ومن الممكن لأي تيار أن يعتبر تلك المجموعة من الأحزاب والجماعات، وفق معاييره التي هي في الأغلب عقائدية وفرقية، جزءاً من"الحركة الشيوعية" أو لا. ولكن الجميع يشيرون على أية حال الى مجموعة من الأحزاب والجماعات. وفي الطرف المقابل لتلك الأحزاب والجماعات، تقف الطبقة العاملة وحركتها"العفوية". وفي تلك التصورات فإن الحركة الإشتراكية للطبقة هي الحركة التي كان بإمكان هذه الأحزاب التأثير فيها وكانت قد نظمتها. ولهذا فإن هذه الأحزاب والتيارات لاتعترف بالتأكيد بوجود حركة إشتراكية عمالية خارج حركتها الحزبية هذه.

إن المكانة الراهنة للطبقة العاملة والحركة المسماة بالشيوعية وكذلك تاريخ ظهور الماركسية والشيوعية العمالية يفند هذه الأحكام البرجوازية وينفيها للجميع. فالبيان الشيوعي كتب في قلب حركة إشتراكية عمالية موجودة فعلياً في القرن التاسع عشر. وقد إستلهم ماركس وإنجلس حتى عنوان بيانهم من الأسم الذي اطلق العمال على حركتهم الإشتراكية وأكدوا أن كلمة" شيوعي" يستخدمونها لفصل أنفسهم عن الإشتراكيات غير العمالية السائدة في عصرهم وبيان إرتباطهم بالحركة العمالية المعروفة داخل المجتمع بإسم الشيوعية. وبالنسبة للماركسية فإن الإحتجاج الإشتراكي للطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي هو معطى وشرط أولي موضوعي وقائم الوجود. فلم يكن ماركس وإنجلز ينوون إختراع حركة حديثة الظهور، بل إنهم إعتبروا أنفسهم مفكري ومنظمي إشتراكية عمالية موجودة فعلياً داخل المجتمع. واليوم وبعد مرور ما يقارب القرن ونصف القرن من نشاط الماركسيين، بعد قرن ونصف القرن من رسوخ النظرية الماركسية بمختلف الطرق ومن جملتها في قلب الثورات العظيمة داخل الحركة العمالية، ومن الطبيعي إرتباط الإشتراكية العمالية بالماركسية والإستلهام منها وأن تكون الأحزاب الماركسية والشيوعية لدورات معينة وفي مراحل تاريخية معينة الأحزاب المنظمة فعلاً لهذه الإشتراكية العمالية في مختلف البلدان. فلم يكن التاريخ الحزبي للإشتراكي مفصولاً ومنعزلاً عن التاريخ الإجتماعي والطبقي للإشتراكية مثلما هو عليه الآن. ولكن اليوم نجد أنفسنا في وضع ومكانة مختلفة تماماً. فالتيار الحزبي المسمى بالشيوعي والإشتراكي ليس له بكل أنواعه وفرقة أية صلة وعلاقة مباشرة بهذه الحركة الإشتراكية العمالية. إن إحتجاج العامل ضد الرأسمالية المتنامي بالتزامن مع تنامي الرأسمالية نفسها والذي يشكل اليوم الصراع المحوري في كافة المجتمعات الرأسمالية، قلّما وقلّما يأخذ شكله ويبلور ملامحه من مسار هذه التيارات. وإذن علينا الحديث عن حركتين إثنتين. حركتان تسندان على أسس طبقية مختلفة، ولهما مصائر ومعضلات وقضايا وإشكالات مختلفة.

تمثل الشيوعية العمالية واقعاً وحقيقة إجتماعية وتقليد سياسي ونضالي حي. إنها تيار إجتماعي. بالضبط مثلما أن الليبراليين البرجوازية واقع وحقيقة إجتماعية. وهذه التقاليد تتقدم على وجود الأحزاب السياسية. إن العلوم السياسية البرجوازية تعتبر الحزب مجموعة من الأفراد المجتمعين لتحقيق هدف مشترك. ولكن بالنسبة للماركسية فإن الحزب هو إنتظام ناشطي وفعالي تقليد نضالي معين وحركة إجتماعية معينة. تستطيع الليبرالية في مرحلة معينة أن تمتلك حزباً يمثلها أولاً. ولكن مادامت أسسها الموضوعية الإجتماعية موجودة فإن الليبرالية ستبقى تياراً حياً داخل البرجوازية وستؤدي الى ظهور أحزاب ليبرالية جديدة. وينطبق هذا الأمر على الحركة القومية، الحركة الإصلاحية البرجوازية والإتجاهات والميول الإجتماعية الأخرى. إن بإمكان أي شخص أن يدرك ببساطة مثلاً أن الجبهة القومية والتنظيمات المختلفة الموجودة داخلها تبلورت ووجدت في قلب تقاليد الليبرالية والحركة القومية الايرانية. ولكن هذه التقاليد لاتبدأ مع الجبهة القومية ولا تنتهي معها أيضاً. وتنطبق نفس المعادلات أيضاً على الشيوعية العمالية. فتقليد الشيوعية العمالية الذي إمتلك الأممية الأولى والبلشفية والثورات الألمانية والروسية، عجز منذ زمن طويل أن يبلور أحزاباً سياسية جدية. ومن الممكن بحث أسباب إتجاه هذا العجز، ولكن هذا العجز لن يغير من حقيقة أن الشيوعية العمالية إتجاه نضالي واقعي وموجود داخل المجتمع.

غير أن البحث هو بصدد بلورة وإيجاد حزب شيوعي داخل هذا التقليد النضالي. والخطوة الأولى هي أن يدرك الإنسان ويشخص أن الأحزاب شبه الإشتراكية وشبه الماركسية الموجودة لا هي إنبثقت من هذا التقليد ولا هي تعمل داخله. ولكن العمل والوظيفة الأساسية هي العمل على إيجاد وتشكيل مثل هذا الحزب.

وبهذه التفاصيل يفترض أن يكون الإطار العام لبحثنا حول عملنة الحزب أكثر وضوحاً. فالى جانب الحزب الشيوعي الايراني هناك إشتراكية عمالية تتخندق الآن وتتموضع في مواجهة البرجوازية. وهذا التيار لايملك جزباً، لايملك برنامجاً مكتوباً، في داخله ألف خط وخط وإبهام وإبهام، وتنظيمه الداخلي في مستوياته البدائية الأولية وفي حدوده الدنيا. على الحزب الشيوعي الإرتباط بهذا التيار وإذا كان ثمة شيء ليقول ومهمة ليقوم بها فليفعل ذلك هناك داخل هذا التيار. فعملنة الحزب الشيوعي تعني الإعتراف الرسمي بالحزب الشيوعي كوسيلة وأداة لتطوير وتوسيع إحتجاج العامل ضد الرأسمالية من قبل نفس التيار الإشتراكية العمالية والعمال الشيوعيين. وهذا يتطلب ويستلزم تنقية وتنظيف الحزب الشيوعي من كل التصورات والأحكام المسبقة، كل العلاقات والإنشغالات وكل الأساليب المورثة عن اليسار غير العمالي وحضوره بالكمال والتمام وتموضعه كلياً في هذا الخندق العمالي. هذا يتطلب ويستلزم تحويل الحزب الشيوعي الى لسان حال والناطق بإسم هذا التقليد العمالي فقط وحامل رايته ولواءه وهو لاغيره مقابل كل المجتمع الموجود وكل البرجوازية.

العضوية العمالية: طرح المسألة

إن مسألة أن علينا في الحزب الشيوعي الايراني وضع قضية"العضوية العمالية في جدول أعمالنا وإيجاد حل من أجل تسهيل إنتماء العامل وعضويتهم في الحزب تشكل تناقضاً أساسياً وحالة مقلوبة. فمن المفترض أن تكون المسألة عكس ذلك. إذ أن الحزب الشيوعي حسب تعريفه وحسب ما يتوقعه كل شخص قرأ البيان الشيوعي ولو لمرة واحدة، يفترض أن يكون حزباً عمالياً. وإذا كان ثمة بحث يطرح بيننا حول العضوية بفترض أن يكون بحثاً حول شروط ومستلزمات عضوية الأشخاص من غير العمال في حزبنا العمالي. ينبغي أن يهزّ هذا التناقض كل عضو في الحزب الشيوعي الايراني ويجعله يفكر بشكل مليّ فيه.

وبالنسبة لبعض الرفاق تطرح مسألة عضوية العمال في الحزب كنسب وأرقام وإحصاءات، من قبيل ما النسبة المئوية لعضاء الحزب من العمال؟ إن إهتمام الرفاق بهذه المسألة هو من غير شك أمر محمود.إلاّ أن إبتذال المسألة والنزول بها الى قضية نسب مئوية وإحصاءات هو أمر مظلّل. وبموجب الإحصاءات فإن نسبة الأعضاء العمال في الحزب الشيوعي الايراني منذ بداية تأسيسه هي في إزدياد مستمر مقارنة بالأعضاء غير العمال. واليوم فإن الحزب السيوعي العمالي أكمل نصابه من هذه الناحية حتى أنه قلّ نظيره في اليسار الراديكالي الايراني في العقود القليلة الأخيرة. ويمكن القول أن أغلبية العناصر الغير العمالية التي إنتمت طوال هذه السنوات الى الحزب تشكل الآن تنظيمات تعمل مع تنظيمات الحزب الشيوعي إلاّ أنها من الناحية الحقوقية ليست أعضاءاً. ولكن من بين الرفاق الذين إرتبطوا بنا بعد تأسيس الحزب فإن الأغلبية هم من الرفاق العمال. وفي الواقع فإن المثقفين والعناصر غير العمالية لم تطلب العضوية من الحزب الشيوعي الايراني إلاّ بنسب قليلة جداً، خصوصاً خلال السنوات الثلاث والأربع الأخيرة، في حين أن توجه العمال نحو العمل المنظم والمنتظم مع الحزب هو الآن في تنامس مستمر.

كل هذه المسارات هي مسارات إيجابية ومطلوبة. فهي تشكل الدلائل والشواخص الحية على قدرة الحزب الشيوعي الايراني الفعلية على التحول الى حزب عمالي حقيقي. إلاّ أن قضية العضوية العمالية لاتأخذ بنظر الإعتبار هذا التحول التدريجي والبسيط في النسب والإحصاءات. ففي المستوى الأدنى سأبين كيف أن توجه العمال ىنحو الحزب ما زال يجري في ظل سياسة ونظام لكسب الأعضاء هو في أساسه نظام وسياسة غير عمالية. لذا فإن نفس هذا المسار مازال في الواقع يفتقر لأي معنى طبقي جدي. إلاّ انني هنا أود جلب إنتباه الرفاق الى مسألة العضوية العمالية لاتدور حول كسب العمال المنفردين آحاداً وجعلهم أعضاءاً في الحزب بالمعنى الذي نفهمه الآن. بل إن المسألة تدور حول توسيع مديات حضور ووجود الحزب بحيث يحتوي نشاط العامل الشيوعي ويحتضنه، ذلك النشاط الذي يكتسب ملامحه الآن، تحويل هذا النشاط الى جزء لاينفصل عنه. وبعبارة أخرى فإن موضوع العضوية العمالية وبحثها يدور حول إعادة تعريف نفس مفهوم العضوية والتحزب بحيث تستوعب وتهضم النضال الشيوعي والراديكالي العمالي الذي يتبلور الآن وتربطه صلة وثيقة بالحزب وتحويل هذا النضال الى الشكل الأساسي لحضور الحزب ووجوده. والى جانب الإحصاءات والأرقام حول توجه العمال نحو الحزب، توجد مجموعة من العوامل الأكثر أهمية أيضاً والتي من المؤسف مازالت غائبة في اجندتنا ولايحسب لها حساب خاص ولم تترك اثرها على فكرنا التنظيمي وتقاليدنا الحزبية. وكمثال على هذه العوامل هو تبلور وتشكل فئة وطيف واسع من العمال الشيوعيين والذين لهم دورهم في النضالات الإحتجاجية العمالية ويستلهمون من الحزب وإذا لم تكن لهم صلة عملية وثيقة بنا فإن هذا ليس بسبب عدم رغبتهم ذلك وحتى أن أخبار نشاطات هؤلاء الرفاق تبعث الدهشة والحيرة لدى نفس المنظمين الحزبيين. إن حزبنا لم يعجز فقط لحد الآن عن إحتواء كل الحركة الإشتراكية الراديكالية للعمال في داخله، بل وإنه أبقى حتى ذلك القسم من ناشطي ومناضلي هذه الإشتراكية العمالية الذين يرون أنفسهم قريبين من الحزب ويعتبرون أنفسهم جزءاً منه خارج أسواره وحدود الحقوقية.

وبعبارة أخرى يتألف الحزب الشيوعي الايراني الآن من جزئين إثنين. الجزء الأول هو الجزء الرسمي، المعدود والممنوح حق العضوية. وهذا الجزء هو ما يطلق عليه تقليدياً إسم الحزب. ويسود على هذا الجزء النسيج غير العمالي. أما الجزء الثاني يشمل قوة غير رسمية أكثر إتساعاً في نطاقها تتألف من العمال الشيوعيين وقادة الحركات الإحتجاجية الذين يدفعون سياسات الحزب الى الأمام دون أن يكونوا أعضاءاً فيه ويقيمون صلاتهم وعلاقاتهم مع الحزب بأشكال لاتخضع للنظام الداخلي وبدون إلتزامات صارمة على ما يبدوا. إن القدرة الحقيقية والواقعية للحزب هي حاصل جمع هذين الجزئين معاً. ولكن من المؤسف أن الحزب رسمياًً هو الجزء الأول فقط. وهذه الإزدواجية موجودة في كل مكان من ايران، ولكن كردستان هي المكان الذي يمكن فيه رؤية هذه الحقيقة وهذا التناقض بأجلى وأوضح أشكالهما. إن العضوية العمالية لاتعني توسيع وتنمية خط العمال الأعضاء في الجزء الأول( الجزء الذي يمتلك رسميته اليوم)، بل إنها تعني الإعتراف الرسمي بالجزء الثاني وتوسيع العضوية الحزبية لتشمل هذا التنظيم العمالي الواسع الموجود اليوم خارج أسوار الحزب الحالية. فعملنة الحزب تعني عملنة ممارسته، تعني تحويل ممارسة العامل الشيوعي، في مواجهته المباشرة للرأسمال، الى الجزء الأهم في ممارسة الحزب، تعني إعادة تعريف التحزب بحيث يحتوي ويحتضن هذه الممارسة الموجودة عملياً والجارية الآن. فالأوضاع الموجودة هي مصطنعة والأهم من ذلك أن مضارّها الأساسية تكمن في حرمان الحزب في إعادة هيكلة نفسه بالتمحور حول ممارسة هذا الجزء العمالي والتأثير المطلوب منه في هذه الممارسة. بإعتقادي أن هذا الجزء العمالي هو الآن عضو في الحزب الشيوعي الايراني. وبقاء هذه الفئة الواسعة من الرفاق العمال خارج الحزب من الناحية الحقوقية، أدى لحد الآن وبشكل كبير الى تأخير مسار ترسيخ الشيوعية العمالية في الحزب ووضع عقبات أمام تحويل حزبنا الى الحزب الشيوعي للعمال في ايران. ينبغي وضع حدّ لهذه الأوضاع وإنهائها.

ولتوضيح إطار هذا البحث ينبغي أن أشير الى جملة من النقاط الأخرى:

أولاً: حين نتحدث عن الحزب العمالي لانقصد بالضرورة حزباً كان قد نظم الجماهير العمالية داخل صفوفه وبالإرتباط به(شيء شبيه بأوضاع الإشتراكية الديمقراطية الأوروبية الى ما قبل أزمة العقد الأخير). إن هذا ممكن بالنسبة للشيوعية الثورية في مراحل خاصة وفي ظل أوضاع خاصة. بل إن ما نقصده هو أن الحزب الشيوعي ينبغي بأية حال ما دام موجودا ويمارس نشاطه كحزب سياسي أن يكون المنظم والحاضن لناشطي الحركة الإحتجاجية للطبقة العاملة والقادة العماليين. على الحزب الشيوعي أن يكون حزب الإتجاه والميل العمالي. وعليه أن يكون منبثقاً من محيط الإحتجاج العمالي ومتموضعاً في قلبه، وأن تكون بنيته وهيكله الأساسي ونشاطه الأصلي مستندة على الجزء المتقدم والطليعي والشيوعي من العمال أنفسهم. ومن البديهي أن للثوار الشيوعيين أياً كان إنحدارهم الطبقي مكانتهم فيه. إلاّ أن العمود الفقري والنسيج السائد له ينبغي يشكله العمال وأن يكون الميدان الأساسي والأصلي للممارسة الحزب حيث يكون العمال الشيوعيين والحزبيون في قلب الإحتجاج العمالي ومع الجماهير العمالية في مواجهة الرأسمالية والرأسمال.

ثانياً: إن لبحثي إختلاف مهم مع بحث الأشخاص الذين يعرّفون الحزب اليوم حزب"الطليعة" الطبقة. وليس إختلافي مع مقولة"الطليعة". بل معى الفهم الموجود عنها. فالمدافعين عن هذه الصياغة في مرحلتنا ينظمون مجدداً المثقفين ويجدون من خلال هذه الصيغة الحق في إيجاد الأحزاب السياسية غير العمالية. وبالنسبة لهم فإن الطليعة مازالت طليعة عقائدية أيدولوجية ومازالت ترجع الى شريحة المتعلمين في المجتمع. إن بحثي يدور حول الطليعة والقائد العملي للطبقة، ويستند على أولئك العمال الشيوعيين الذين يمارسون الآن نشاطهم وفعاليتهم كقادة للإحتجاج العمالي ودعاة ومحرضي ومنظمي الإشتراكية العمالية. وينبغي أن يشكل هؤلاء العمود الفقري لكل حزب يمارس نشاطه بإسم الحزب الشيوعي.

"اليسار الرايكالي" والعمال

إن العقبات التي تقف في طريقنا، كحزب شيوعي ايراني، في التحول الى حزب عمالي فعلاً، هي الحصيلة ونتاج مسار تأريخي طويل. وهي إنعكاس للإنفصال التأريخي والعام لليسار الراديكالي الايراني عن الطبقة العاملة وكما أشرت وأكدت لمرات عديدة وبأشكال مختلفة، فإن اي تقدم لنا مرهون بإنفصالنا وإنقطاعنا فكرياً وسياسياً وعملياً عن اليسار الراديكالي. ولقد خطونا خطوات متقدمة في هذا المسار. ولذا ينبغي أثناء أي إنتقاد لليسار الراديكالي إضافة تحليلنا الواضح وملاحظاتنا حول إختلاف حزبنا عن ذلك التيار. وسأذكر هذا الإختلاف في آخر البحث، لأن ما يقرر مصير حزبنا مازال بتصوري هو النقاط التشابه وليس نقاط الإختلاف. وتشكل قضية العضوية العمالية والعلاقة العملية لحزبنا مع العمال أحد النقاط والمفاصل التي بصدد أن ندفع من خلالها ثمن القبول دون إنتقاد وتمحيص للأفكار والتصورات والتجارب السابقة لليسار اللاعمالي.

وما أقصده باليسار الراديكالي في هذا البحث هو كل الإتجاهات والميول شبه الإشتراكية التي ظهرت الى الساحة بعد هزيمة وفشل القوى التقليدية للمعارضة الايرانية، الجبهة القومية وحزب توده، وخصوصاً بعد التحولات الإقتصادية التي رافقت عملية الإصلاح الزراعي في ايران. وقد كان نهج النضال المسلح وما بعد الخط الثالث والى جانب ذلك فئة وطيف واسع من المجاميع الماوية واليسارية الليبرالية، كلها كانت الأشكال التنظيمية التي مثلت ظهور هذا اليسار الراديكالي. ولكن عليّ القول أيضاً أن الإطار العام لبحثي ليس محدوداً في نقد علاقة اليسار الراديكالي بالعمال في الساحة السياسية في ايران فقط. وفيمل لو تجازونا المجاميع التي إنفصلت في المراحل السابقة عن الكومينترن، فإننا نجد أن هذه التيار قد تبلور وظهر الى الساحة على الصعيد العالمي منذ أواسط عقد الخمسينات الميلادي(يقصد المؤلف خمسينات القرن العشرين- المترجم) فما بعد من خلال الإنتقاد لمل يصطلح عليه الخط الرسمي للشيوعية الممثل من قبل الحزب الشيوعي السوفيتي. وقد كانت التروتسكية، الماوية واليسار الجديد المصادر والمنابع الأساسية لظهور اليسار الراديكالي. وقد كانت هذه التيارات اليوم موضوعيتها وهي بصدد التلاشي والاضمحلال. فقد كانت مرحلة بين أوساط عقد الستينات وحتى النصف الثاني من السبعينات هي مرحلة نشاط وإزدهار هذه التيارات. وكان لهذه التيارات خصائص مشابهة لليسار الراديكالي الايراني فيما يتعلق بالإنفصال عن الطبقة العاملة وبالطبع تركت تأثيرها على فكر وممارسة التيارات الايرانية. ولكن في التحليل هذه التيارات ينبغي الإهتمام بالمنشأ والانحدار الطبقي والبيئات الإجتماعية المختلفة لها. فاليسار الراديكالي في أوروبا الغربية وأمريكا لم يكن حصيلة وثمرة وممثل نفس الحركة الإجتماعية والمطالب الطبقة الموجودة في ايران. وسأجعل من بحثي قاصراً على اليسار الايراني، لأن لذلك علاقة أكثر مباشرة ومساساً بتجربة الحزب الشيوعي الايراني.

ولايحتاج إنعزال اليسار الراديكالي الايراني وإنفصاله عن الطبقة العاملة لأي دليل لإثباته ولا حتى أنه مبعث تعجب واستغراب. فقد تبلور هذا اليسار في الفراغ الناشئ من هزيمة وفشل الأحزاب التقليدية للمعارضة الايرانية، حزب تودة والجبهة القومية، التي مثّلت الأهداف القديمة للإجنحة اليسارية واليمينية للبرجوازية الايرانية الحديثة الظهور، والحركة الإصلاحية والحركة القومية. وقد كان نقد اليسار الراديكالي لهذه الأحزاب التقليدية في الأساس نقداً حول تفريط تلك الأحزاب بهذه الأهداف البرجوازية والأساليب المسالمة التي إتخذتها في سعيها لتحقيقها في الماضي. وكان ظهور اليسار الراديكالي هو حصيلة ونتاج رفع راية نفس تلك الأهداف من قبل قوى إجتماعية أخرى وبالطبع في ظل أوضاع وظروف إقتصادية وسياسية مختلفة. وأنتقل مركز الثقل في النضال من أجل إصلاح الرأسمالية الايرانية وتحقيق الإستقلال السياسي والإقتصادي من يد االبرجوازية ليد برجوازية الصغيرة. وقد كان هذا الإنتقال والتحول في نفس الوقت حصيلة وثمرة مسارات فكرية حاسمة في حركة اليسار على الصعيد العالمي وكذلك التحولات البنيوية في الإقتصاد السياسي الايراني. ولا استطيع هنا الخوض في هذا الموضوع. ولكن أود الإشارة الى أن الإصلاح الزراعي والتحولات المهمة التي جرت خلال هذه العملية طرأت على البناء والهيكل الإقتصادي في ايران والنسيج الطبقي للمجتمع كان لها أهمية حاسمة في زوال االأحزاب التقليدية، بلورة وضهور هذا اليسار الجديد وجره نحو مطالب أكثر راديكالية وأساليب أكثر تطرفاً في النضال السياسي. والى جانب هذا التحول الإقتصادي، وفّرت الأوضاع العالمية للحركة المسماة بالإشتراكية وخصوصاً ظهور الماوية والشعبوية القومية في أمريكا اللاتينية، التي عبّر كلُّ منها عن إستراتيجيتة الحركة القومية والإصلاح في البلدان الخاضعة للسيطرة الإستعمارية، وفّرت العناصر المادية اللازمة لرسم وصياغة الملامح السياسية والنظرية لهذا اليسار الجديد.

وفي أي شكل من الأشكال فإن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن اليسار الراديكالي الايراني لم ينبثق ولم يتنامى أساساً في مركز الإحتجاج العمالي. ومن ناحية الأهداف والتطلعات، لم يمثل هذا اليسار إتجاهاً خاصاً للإشتراكية العمالية وإلغاء الملكية الخاصة. فقد شكل النضال ضد الإستبداد،النضال من أجل"العدالة الإجتماعية"و"الإستقلال والتحرر من الإمبريالية" الأفق السياسي لهذا اليسار. ومن الناحية العملية فإن هيكل هذا اليسار، ناشطيه،كوادره، خلايا نشاطه،لغته، أولوياته وإنشغالاته وأخيراً الأساليب النضالية التي يقترحها، كانت كلها نابعة من نفس الطبقات الإجتماعية اللا عمالية التي رفع هذا اليسار راية أهدافها وتطلعاتها. وسأعود لاحقاً وبشكل مُفصل لهذه الأبعاد العملية وسأبّين كيف أن هذا اليسار قد تقولب بقالب مثقفي البرجوازية المحتجين والساخطين. كذلك من الواضح أن انفصال الطبقة العاملة عن هذه اليسار كان أمراً طبيعياً وحتمياً. ولم يكن لهذه اليسار في المرحلة التي سبقت ثورة عام ١٩٧٨-١٩٧٩ أية صلة ملفتة للأنتباه بالإحتجاج العمالي ومحيط هذا الإحتجاج. فقد كان القسم الأعظم من هذا اليسار يُنظَّر علناً لهذا الإنفصال ويبرره. الماوي كان مشغولاً بفلاّحه والفدائي إبن المدينة بأسطورة المكائن الصغيلاة والكبيرة ودعايته للنضال المسلح. لقد كانت ثورة عام ١٩٧٨-١٩٧٩ أول تماس واقعي ولقاء مادي لهذه اليسار مع العامل كطبقة إجتماعية. وكان تأريخ مرحلة الثورة هو تأريخ تسجيل هذا الإنفصال ومن ثم خروج هذا اليسار الراديكالي من الميدان.

وإذا كان هذا اليسار يعتبر نفسه ماركسياً فإن لهذا الأمر سببان رئيسان. أولاً:كانت الماركسية بالنسبة لهذا اليسار نظرية(وفي الواقع النظرية الوحيدة المعتبرة) التغيير القهري للأوضاع الموجودة. فقد إرتبطت فكرة الثورة بالماركسية وأضطر كل شخص كان بصدد التغيير القهري للأوضاع طوال التاريخ المعاصر، حتى لو كان الأمر من أجل تحقيق مجموعة من الإصلاحات البرجوازية تماماً، أضطر لتخصيص مساحة للماركسية في منظومته الفكرية. وكما قلت فقد حّول الماويون وأشباه الماركسيين في مدرسة التنمية الماركسية الى الشعبوية لدرجة بحيث تتمكن البرجوازية الساخطة والمحتجة في البلدان الخاضعة للسيطرة الإستعمارية من إتخاذها وتبنيها. ولكن تلك الأوضاع تغيرت اليوم من غير شك و "الماركسيون" الذين دخلوا الميدان بهذه الطريقة هم الآن بصدد إخلاء الساحة بسرعة كبيرة.فما عادت الماركسية اليوم ولا الثورة نهجاً بالنسبة للمثقف في تلك البلدان. ولكن مرحلة تبلور وظهور اليسار الراديكالي الايراني كانت الماركسية وسيلة كسب أي إعتبار سياسي كتيار راديكالي.

والسبب الثاني في إلتصاق هذا التيار بالماركسية، هو مكانة الطبقة العاملة في ايران نفسها وحضورها اليومي والمتواصل في الميدان السياسي في المجتمع. فقد عّرف اليسار الرديكالي العامل بوصفه العمود الفقري للشعب ىوعلى الرغم من عدم حساسيته وتقيده بمطالب وحاجات هذه الطيقة وأهدافها المستقلة،إلا أنه إعتبر نفسه ممثل العمل والمدافع عنه بوصفه جزءاً من الشعب. وبالقدر الذي فسح فيه هذا اليسار المجال للعامل في سياسته، أياً كان تصوره له، بنفس القدر أوجد مكاناً للماركسية في فكره أيضاً.

لقد إقترب العمال كثيراً طوال الثورة من هذا اليسار. ولكن ما دام العامل لم يطور ويرتقي بحركته الثورية، مادام لايمتلك حزبهُ، لايمتلك برنامجه ولم يطرح واقعياً وفعلياً بديله المستقل إزاء قضية السلطة السياسية، كان من المحتوم أن يصوب أنظاره نحو أكثر التيارات راديكالية وأكثرها يسارية في المجتمع. ونفس هذه الآليات هي التي جعلت العمال في كل البلدان بالتمايل والتوجه صوب الجناح اليساري للبرجوازية. وأسباب هذه المسألة واضحة. فالعامل لايدخل الى الميدان وفق أفكار مجردة، بل إنه يدخل الساحة بمطالب واقعية ومن أجل تحسين ملموس في حياته ومعيشته. ومكانته الموضوعية في الإنتاج تدفعه كل لحظة للإختيار من بين الحركات السياسية على أمل تحقيق حتى أقل التغييرات وأكثر ضآلة. ولكن هذا لايعني أبداً تموضع هذه التيارات في قلب الإحتجاج العمالي وتحولها الى الأحزاب الطبيعية للعمال. فلم يمسك اليسار الراديكالي الايراني ولم يستفد حتى من هذا الأمل والتعلق السياسي الإضطراري للعامل الايراني به. فالآفاق القومية الإصلاحية،معادة الإستبداد، والهيكل والفكر التنظيمي من إجل إحتجاجهم الإقتصادي والسياسي.

إن الكثيرين حين يكتبون تأريخ الإشتراكية المعاصرة في ايران وخصوصاً تأريخ نشاط وممارسة هذه الإشتراكية في ثورة عام ١٩٧٨-١٩٧٩، يدورون حول تاريخ هذا اليسار الراديكالي. ولكن الحقيقة هي أن الإشتراكية العمالية كحركة إجتماعية فعلية كانت موجودة طوال عمر هذا اليسار الراديكالي خارج هذا اليسار وبشكل مستقل عن حركة هذا التيار. ويعتبر المؤرخون الأحدث عهداً لليسار الايراني. وبالإستلهام من أدبيات اليسار الأوروبي لما قبل عقدين وتحت تأثير التحولات المعاصرة في الإتحاد السوفيتي، يعتبرون فشل اليسار الراديكالي الإيراني ناجماً عن عدم الإهتمام بقضية الديمقراطية. ولكن لم يكن كل اليسار الراديكالي في الواقع سوى ديمقراطية قومية وراديكالية.

فقد شكل النضال ضد القمع للديمقراطية وسلب المكاسب الديمقراطية لإنتفاضة بهمن من قبل النظام الإسلامي، كل لحظات وجود وحياة اليسار. لقد حارب هذا اليسار وسالت دمائه من أجل الديمقراطية. وكانت هزيمة وفشل اليسار الراديكالي بسبب إنعزاله عن الإشتراكية العمالية والحركة الإحتجاجية للطبقة العاملة ورغبته عنها.

وأخيراً بقي اليسار الراديكالي على هامش السياسة لأنه لم يكن أكثر من إشتراكية الشرائح الهامشية في المجتمع. إن تاريخ هذا اليسار هو تاريخ النضال الديمقراطي والعداء للإستبداد. تاريخ تحرك الطلبة والمثقفين الشباب ومناظراتهم وجدالاتهم وإجتماعاتهم وفرقتهم التنظيمية. وعلى أية حال كان لهذه النضالات قيمتها بالنسبة للطبقة العاملة، ولكن هذا لم يكن تاريخ العمل والممارسة العمالية المباشرة، لم يكن تاريخ إشتراكية الطبقة العاملة، لم يكن تاريخ الإضرابات العمالية، ولم يكن تاريخ ظهور التنظيمات الجماهيرية للعمال، إيقاف عجلات الإنتاج، الصراع حول الأجور، ظهور خلايا النشاط الشيوعي العمالي، ظهور القادة المعروفين في النضال الإقتصادي وما شابه ذلك. إن هذه الوقائع والأحداث التي كانت تحدث بأبعاد سريعة الى جانب هذا اليسار وأمام أنظاره المنذهلة وغير المصدقة، بقيت خارج الممارسة الإجتماعية لهذا اليسار. لقد كان اليسار الراديكالي يتحدث عن "العلاقة" مع الطبقة العاملة، وبهذا كان يعترف بإنعزاله عنها،إلاّ أنه لم ينتبه أبداً ولم يدرك أن المسألة لا تدور حول علاقة"الإشتراكية" بالعمال بمثابة شريحة إجتماعية، بل حول ترك مكانته الإجتماعية والتخلي عنها والإرتباط بالحركة الإشتراكية العمالية الجارية الآن في المجتمع، الحركة التي تنظم الممارسة العمالية المباشرة، تنظيم الإحتجاجات والإضرابات، تربّي القادة العماليين، ترتقي بالوعي الذاتي الإشتراكي للطبقة العاملة، تحافظ على إتحاد العمال بأية درجة كان بدءاً من الحلقات وصولاً للمجالس وتخرج الماركسية الى النور وإستخدامها على الرغم من الكلائش والإضافات الزائدة والإفكار الغامضة الى أضافتها نفس هذا اليسار الراديكالي لها. هذه الحركة ضعيفة وغير ناضجة، لمم تتحزب بعد ولم تستعرض قدراتها العظيمة.إلاّ أنها حركة واقعية. إنها أكثر الإشتراكيات الموجودة في ايران واقعية.

ويشكل إنفصال اليسار الراديكالي عن العمال، أو من الأصح أن أقول إنفصال حركة اليسار الراديكالي الايراني عن حركة الإشتراكية العمالية، هو إنفصال شامل وعميق. إنه إنفصال نظري،برنامجي، براكتيكي، وبكلمة واحدة إنفصال إجتماعي.

إنهما حركتان من أجل مجموعتين مختلفتين من التحولات الإجتماعية، من إجل ثورتين مختلفتين، وتستندان على طبقتين إجتماعيتين مختلفتين. إنهما حركتان موجودتان بالفعل ولكل منهما ممارسته. إحداهما تمثل الإشتراكية والأخرى لاتمثل وسيلة للحركة العضوية العمالية. وإذا كان هناك في الواقع إشتراكية ما فإنها تكون في الأولى في حين أن الثانية(أي حركة اليسار الرديكالي – المترجم) فإنها وسيلة الإحتجاج القومي- الديمقراطي للمثقف الايراني المحتج. ومن غير شك أن الماركسية كيافطة ولوحة عامة، وكذلك كمجموعة من المطالب السياسية والإقتصادية العاجلة تربط هذين الحركتين ببعضهما البعض وتقربهما من البعض، إلاّ أن تطابقهما مع البعض هو أمر خاطئ.

لذلك فإن لاعمالية اليسار الراديكالي ظاهرة حتمية ناشئة عن الماهية السياسية والمكانة الطبيقة لهذا اليسار. وقد تبلور هذا التيار كما قلت لا من حركة الطبقة العاملة ولا من محيط الإحتجاج العمالي، بل كإمتداد للمعارضة البرجوازية القومية والمناهضة للإستبداد. ولم يكن النشاط داخل صفوف الطبقة العاملة والحركة الإحتجاجية الطبقية أبداً حالة طبيعية ومتعارفة لوجود هذا التيار. فقد حدد نهج النضال المسلح خطة ومنهجه على أساس إفتراض أن الإستبداد والكبت يمنع الإرتباط بالعامل. وأثناء الثورة( الثورة الايرانية عام ١٩٧٨-١٩٧٩ – المترجم)، وحين لم يكن عامل الإستبداد والتضييق يلعب دوراً، كانت حركة الشرائح الطلابية والمثقفين البرجوازيين الصغار هي الحركة الطبقية لهذا اليسار. واليوم ايضاً يرى اليسار الراديكالي أن"الطالب" ما زال ناقوس" الثورة" وأملها ويكفي أن يضرب طلبة جامعة معينة ملاعقهم على الصحون الطعام إحتجاجاً على قطع الكهرباء لترى كيف يهتاج تيار من مثل راه كاركر(منظمة يسارية ايرانية- المترجم) ويتحمس ويملأ صحفه بالتهاني والتحيات الحارة للطلبة و"الحركة الطلابية". وعلى اية حال فإن النقطة الأساسية هنا أن هذا الإنفصال والإغتراب عن الإحتجاج العمالي لم يكن صدفة أبداً ويؤكد تماماً على المكانة الإجتماعية غير العمالية لهذا اليسار.

في القسم التالي لهذا النص سأتطرق بالتفصيل للآليات المحددة التي تسببت في الإنفصال العملي والتنظيمي للعمال عن اليسار الراديكالي وفي القسم الأخير سأتحدث بإختصار عن الخطوات المحددة الواجب علينا إتخاذها على المستويات المختلفة من أجل توسيع وتنمية العضوية العمالية في الحزب الشيوعي.

الحزب الشيوعي والعضوية العمالية

القسم الثاني


لقد قلت في القسم السابق أن إنفصال العمال عملياً عن أحزاب اليسار الراديكالي الايراني وسيادة وجود المثقفين والطلبة والمتعلمين في هذه التنظيمات لم يكن أبداً نتاج الصدفة أو ناشئ عن السياسات غير الصحيحة في كسب الأعضاء وغير ذلك. بل إن جذوره تعود للإنفصال التاريخي والإجتماعي لليسار الراديكالي الإيراني عن الطبقة العاملة والحركة العمالية. فلم يشكل الإحتجاج العمالي البيئة الطبيعية لنشاط ووجود هذا اليسار ولا تتطابق الأهداف السياسية، التطلعات الإجتماعية وأشكال النضال لدى هذا اليسار مع الحضور الإجتماعي والحاجات السياسية للعامل بوصفه طبقة إجتماعية معينة. وفي هذا القسم أود الإشارة الى تلك الآليات التي تجسد وتعكس هذه الحقيقة الإحتماعية الواسعة على المستوى العملي وتحافظ على العامل الذي هو موضوع عمل هذه التنظيمات بعيداً عن هذه التنظيمات والعضوية فيها.
 

نضال إجتماعي أم نشاط تنظيمي؟

أشرت قبلاً الى أن اليسار الراديكالي الايراني قد ظهر الى الوجود مع فشل وهزيمة القوى التقليدية للمعارضة البرجوازية، الجبهة القومية وحزب توده. وقد إنتقد هذا اليسار الجديد التيارات التقليدية. وقد أكد نظرياً على الإشتراكية والماركسية كمدرسة فكرية. ومن الناحية السياسية صعّد من إنتقاده المناهض للإستبداد والقومي. وفي الممارسة السياسية، تخلى عن الأساليب المسالمة التي إتخذتها التيارات التقليدية لصالح النضال العنيف والسري. وبهذا الشكل تحول قسم من المعارضة البرجوازية في ايران الى الراديكالية. إلاّ أن تحولاً أساسياً قد طرأ في هذه الأثناء أيضاً حيث حدد هذا اليسار الجديد تمايزه وإختلافه عن التقاليد السياسية التي كوّنت مصادره الأولية. فقد كانت التيارات التقليدية تيارات إجتماعية، ليس فقط الجبهة القومية، التي كانت في الأساس إئتلافاً مكثفاً وواسعاً من القوى المختلفة للمعارضة البرجوازية، بل وحتى حزب توده أيضاً الذي كان أكثر إنتظاماً وتنظيماً من الناحية التنظيمية، كانت مركز نضال شرائح واقعية داخل المجتمع. إلاّ ان اليسار الجديد لم تكن له مثل هذه الخصيصة والطابع. فقد تبلور اليسار الايراني كمجموعة من التنظيمات والمجاميع السرية وغير القانونية التي تدفع بنضالها التنظيمي الى الأمام. هذه التنظيمات لم تكن ممثلة ومنظمة للحركات الإجتماعية. وبالنسبة لهذه التنظيمات كانت التحركات السياسية للطبقات والشرائح الإجتماعية، وفي الدرجة الأولى الحركة الطلابية وكذلك الحركة العمالية، كانت حركات خارج محيط وحدود الممارسة التنظيمية التي يسعى التنظيم لإقامة "علاقة" معها في مسار نضاله وصراعه. وبدلاً عن التقاليد الإجتماعية لحزب توده والجبهة القومية، ظهرت تنظيمات لا تعرف وتعرّف وفق مكانتها وموقعها الإجتماعى، بل بخصائصها التنظيمية. ولهذا كانت هذه الخصيصة غيرالاجتماعية وإحلال التنظيم محل القوى الطبقية والإجتماعية في الميدان السياسي أمراً حتمياً لايمكن إجتنابه أبداً. لأن هذا التقليد هو حصيلة راديكالية جزء من الناشطين السياسيين لتلك الطبقات التي لم تكن في الميدان الإجتماعي غير راديكالية فقط، بل وإنها رأت في النظام السياسي المحافظ الموجود إطاراً سياسياً مناسباً للنمو الإقتصادي بعد الإصلاحات الزراعية لعقد الأربعينات.

إن شكل ظهور هذا اليسار الجديد قد طبع الخصائص التنظيمية والممارسة السياسية لهذه التنظيمات والتيارات بطابعه. فقد شكلت إشاعة التصورات شبه الماركسية الحديثة الظهور، الدعاية والتحريض ضد الإستبداد والإمبريالية، وتنظيم الحركات بقوى الأعضاء والمؤيدين للتنظيم، الخطوط الأساسية لممارسة هذه اليسار الجديد. لقد كانت التيارات التقليدية هي المنظم للإحتجاج الإجتماعي. ولكن اليسار الجديد إنعزل عن الحركات الإجتماعية وحول الإحتجاج التنظيمي الى شكل لوجوده. ويوجد تصوران أساسيان لتبرير هذا الطابع غير الإجتماعي داخل صفوف هذا السيار. تصوران يتضمنان في نفس الوقت تحريفاً لبعض من المفاهيم الأساسية للماركسية والإشتراكية العمالية. الأول هو مقولة "تنظيم الثوار المحترفين" والثاني "علاقة" الإشتراكية بحركة الطبقة العاملة. وكان اليسار الراديكالي يرى عزلته ولا إجتماعيته حالة إنتقالية وعابرة. ويتم الإستدلال والتبرير بأن ما تم إيجاده هو تنظيم من "الثوار المحترفين". وعلاقة هذه التنظيمات بالطبقة العاملة والحركة العمالية هو أمر مرهون بالمستقبل. والمشكلة هي أن أياً من هذه المفاهيم لم يستخدم في التقاليد الماركسية بهذا الشكل. فتنظيم الثوار المحترفين الذين هو جزء مهم من نظرية الحزب اللينينة، يطلق على تنظيم يمثل حزباً إجتماعياً عمالياً بالمعنى التام للكلمة. ووجود حركة إشتراكية عمالية، ومراكز محلية للإحتجاج الإشتراكي للعامل، هي الشروط الأولية لوجود تنظيم الثوار المحترفين الشيوعي. فلا يمكن أولاً تشكيل "تنظيم الثوار المحترفين" للشيوعية العمالية في زاويةٍ ما بمعزل عن هذه التقاليد النضالية وبدون أية علاقة عملية بها وبواسطة عناصر مادية بشرية غريبة عن هذه البيئة النضالية ومن ثم التفكير بمسألة "العلاقة". وفيما يتعلق بنفس مقولة "العلاقة" كنا قد تحدثنا سابقاً عنها. فلم تكن أحاديث البلاشفة في بداية القرن حول علاقة "تنظيم" مع الجماهير، بل حول فسح المجال للإشتراكية العمالية كتقليد فكري ونضالي داخل صفوف الطبقة العاملة الروسية. ولم يتحقق هذا الأمر في نهاية القرن في كل بلد رأسمالي فحسب، بل تحولت الإشتراكية العمالية كتقليد إحتجاجي الى تيار معتبر داخل صفوف الطبقة العاملة في الكثير من البلدان ومن ضمنها ايران أيضاً. ولذلك فإن إطروحات "تنظيم الثوار المحترفين" و"العلاقة" لاتمثل لليسار الجديد سوى ستاراً للتغافل عن مكانة وحقيقة سياسية وإجتماعية خطرة. إنها حقيقة أن وجود هذه التيارات هو وجود تنظيمي وعصبوي. والممارسة السياسية لهذه التيارات قاصرة على الممارسة الدعائية والتحريض وتنظيم الحركات من قبل اعضاءها فقط. وبهذا تم إبدال النضال الإجتماعي بالنشاط التنظيمي.
 

المنظمة والعمال

إن التنظيم غير الإجتماعي هو في خاتمة المطاف موجود في المجتمع ويواجه الشرائح والطبقات الإجتماعية. وعلى الرغم من وجود نماذج من مثل مجاهدي خلق وبعض الفدائيين تدل على أن بإمكان التنظيم إيصال مواجهته المادية للمجتمع الى أقل درجاتها الممكنة وتحويل التنظيم الى شاشة وصورة كاريكاتيرية للمجتمع الذي يعيش فيه الأفراد في الواقع، يتبادلون الأدوار، وتوجد فيه الطبقات. ولكن على أية حال قلما توجد الآن مثل هذه النماذج المتطرفة داخل صفوف اليسار بالمعنى الخاص للكلمة. وعلى أية حال يواجه اليسار العامل بوصفه شريحة إجتماعية. وفي التقاليد اليسار غير العمالي يقف العامل بقامتين مختلفتين أمام التنظيم. الأولى بوصفه شريحة وطبقة إجتماعية والثانية بوصفه فرداً. لايرى اليسار الراديكالي العامل في قامته الإجتماعية إلا بصورة الجمع العددي للأفراد وفي نهاية المطاف بعنوان "صنف" ما. بعبارة أخرى يفتقد العامل كطبقة وكظاهرة خارج المنظمة ملامحه الإجتماعية والسياسية بالنسبة لهذا اليسار. وفيما يتعلق بقطبي معادلة المنظمة- الجماهير فإنني تحدثت بالتفصيل عن ذلك فيما سبق. فالجماهير بالنسبة للمنظمة عديمة الشكل والملامح، تفتقر للحياة السياسية والتاريخ، جامدة ومتوقفة الحركة وإن إيجاد أي شكل من أشكال الإنتظام السياسي داخلها لايكون ممكناً إلاّ من خلال حركة المنظمة. وحتى في حالته الفردية يفتقد العامل ملامحه الإجتماعية أيضاً. فهو عنصر إنساني مثل أي فرد آخر من أية طبقة إجتماعية بصدد أن يحقق معناه على أساس علاقته بالمنظمة ويحصل على أية خاصية سياسية ونضالية يكتسبها من المنظمة مثل بقية أعضاء التنظيم. وبعبارة أخرى فإن العامل سيفتقد خصائصه وملامحه الإجتماعية سواء تم النظر إليه خارج التنظيم كطبقة أو في النظر إليه كعضو و ناشط في المنظمة. إن المنظمة تبتذل الطبقة في الخارج وتهبط بها الى مستوى صنف معين وفي داخل المنظمة لاينظر الى الفرد العامل كعنصر من طبقة أو حتى صنف معين بل كوحدة تكتسب معناها ووجودها من التنظيم. وتبلور المنظمة طابعها اللإجتماعي في فكرها وفي نظرتها للعامل. فللعامل شخصيتان، العامل كفرد عليه قبول فكر وممارسة المنظمة، والإرتباط بها وتكريس إمكانياته مثل أي عضو آخر كفرد لخدمة برامج عمل وخطط وحركات المنظمة، والعامل كجزء من المجتمع، كصنف معين، عليه النضال من أجل مصالحه الصنفية.

في الواقع كلما كانت المنظمة أكثر فرقية ولا إجتماعية، كلما كان فهمها ورؤيتها للعامل أكثر صنفية ولا سياسية. وكلما كانت المنظمة أكثر فرقية وآكسيونية، كلما كانت سياسياتها العمالية أكثر نقابية وصنفية. إلاّ أن المثير للإنتباه هو الفهم والرؤية الفرقية من قبل اليسار الراديكالي للنقابة والحركة النقابية. فالعامل بالنسبة لهذا اليسار هو صنف معين وبالنتيجة فإنه يرى في النقابية ميلاً "غريزياً وعفوياً" لدى العامل لا أن يرى فيها تقليداً من التقاليد المتنوعة النضالية داخل صفوف الحركة العمالية. وهذا هو إختلاف نقابيته عن نقابية حزب توده في مرحلة ما قبل عام ١٩٥٤. فقد كان حزب توده كان تقليداً حزبياً مستنداً على التيار النقابي داخل الطبقة العاملة. وقد إجتذب النقابية العمالية نحوه. وكان تأسيس النقابات جزء من ممارسة حزب توده. ولكن بالنسبة لليسار الجديد تمثل النقابية وسيلة للفت أنظار العامل كصنف معين. وليست مهمة من مهمات هذا اليسار نفسه. ومثلما يعد الفلاح بالأرض فإنه يعد العامل بالنقابة. إن تيارات تُصَّر أثناء تنامي الحركة الطلابية على أن تكون الخطوط السياسية المختلفة داخل تلك الحركة قد بنيت تمايزاتها الأيديولوجية والتنظيمية، لن تجد إزائها عملاً تقوم به إزاء العامل سوى إعلان وفائها لفكرة النقابة التي يرون فيها مثالاً للعامل كصنف معين. والمثير حقاً أيضاً هنا هو متى ما دخل العامل كطبقة الى الميدان وتبلور صراع بين الخطوط المختلفة داخل حركته وظهرت ملامح حياة سياسية داخل صفوف الطبقة، فإن خط اليسار الراديكالي يكون عرضة للتأرجح والتذبذب إزاء قضية التنظيمات الجماهيرية للعمال. فحين نشط العامل في ثورة عام ١٩٧٨-١٩٧٩ وحقق تقليد النضال المجالسي حضوراً داخل صفوف الطبقة وكانت له اليد الطولى، أعلن هذا اليسار تعلقه بهذا النموذج وحين فُرض التراجع على العامل عاد "المجالسيون القدماء" داخل اليسار الراديكالي الى نهج التعظيم والتبجيل اللفظي إزاء النقابة.

خلاصة الكلام هي أن العامل كطبقة خارج الحدود التنظيمية لم يكن ميداناً للنشاط المنظم من قبل اليسار الجديد. فلم يكن هذا اليسار الممثل السياسي والوسيلة الحزبية لأي إتجاه داخل صفوف الحركة الطبقية. لذا حتى حين يجتذب هذا اليسار العامل من ميدان النشاط الجماهيري والطبقي ويرتبط العامل تنظيمياً بهذا اليسار، سيخسر العامل منذ البداية مكانته الإجتماعية بوصفه فعال حركة إحتجاجية طبقية. من الممكن أن يبقى العامل لمدة معينة في نفس محيط نشاطه السابق داخل صفوف الحركة العمالية. إلاّ أن دوره سيتغير بالتدريج وبشكل حتمي. وبدلاً من ناشط الحركة النقابية، سيتحول"العامل المنظم" بالتدريج الى المراسل الخاص للتنظيم، مسؤول البث الإذاعي أو مسؤول كسب العناصر الجديدة للتنظيم.

وبهذا ينبغي التدقيق في العلاقة الفردية للعامل بالمنظمة عند إنتقاد العضوية العمالية في التنظيمات اليسارية غير العمالية لأن هذه العلاقة هي الشكل الوحيد الذي ينظم فيه تقليد اليسار اللاعمالي العامل ويربطه به أو بعبارة أخرى "يقبله عضواً".

وهنا يمكن أيضاً رؤية أول الإختلافات الجذرية بين تقاليد الشيوعية العمالية وبين اليسار الراديكالي في قضية كسب العمال كأعضاء. فبالنسبة للشيوعية العمالية والأحزاب الشيوعية للعمال، لايمثل كسب أعضاء أفراد الى الحزب سوى إختيار أفضل عناصر الصراع الطبقي والنضال العمالي لحزب هو طليعة ومنظم هذا الصراع. العضوية في الحزب تعني وجود العامل المناضل حالياً والمشغول والمنغمز في الإحتجاج العمالي في المنظمة الإشتراكية للعمال والتي لها برنامجها وأهدافها وتحويل ذلك العامل الى عنصر في حركة موحدة وواعية. ولاتشكل العضوية في الحزب نقطة شروع نضالية العامل، بل على العكس تماماً فالحزب الشيوعي العمالي هو الحزب المنظم للأشخاص الذين تخوضون الآن في صراع إجتماعي قائم ومستمر بين العامل والرأسمالي ولهم دورهم الخاص فيه.

أما بالنسبة لليسار الراديكالي الحالي فإن العضوية، وحتى عضوية العمال، لها معنى آخر. وقد قلت سابقاً وبينت كيف أن الإشتراكية الراديكالية غير العمالية لاترى صراعاً طبقياً موضوعياً وإجتماعياً خارجها، فالصراع يبدأ مع إنتماء الفرد الى المنظمة. والوظيفة التنظيمية هي ما يحدد ويعّرف الوجود السياسي للفرد. وفي هذا التقليد فإن العضوية والإرتباط بالتنظيمات هي ما يمنح الطابع الإجتماعي لروح الفرد النضالية. ويُعّرف البشر لا بهويتهم النضالية في المجتمع، مثلاً فلان ناشط مجلس ذلك المعمل، المحرض العمالي في ذلك القسم، قائد الإضراب الفلاني، أو ممثل العمال في عام كذا وغير ذلك، بل بعلاقتهم وإنتمائهم التنظيمي، كفدائي، بيكاري، راه كاركري، رزمندكاني* وغير ذلك. المنظمة هي من يحدد بيئة ومحيط النشاط السياسي وعن طريق القرارات وتقسيم العمل التنظيمي تمنح طابعاً إجتماعياً لنشاط العضو. ففي تقاليد اليسار الراديكالي غير العمالي فإن المنظمة هي مجرى صراع الإجتماعي بالنسبة للفرد. أما بالنسبة للشيوعية العمالية، فإن الحزب هو منظم وقائد صراع إجتماعي يجري في قلب المجتمع، صراع صراع العامل المستمر والمتواصل ضد الرأسمالية والرأسمال.

إن هذا الإختلاف يعلن عن نفسه بوضوح في سياسات وطرق إختيار الأعضاء لدى هذين التقليدين. فالشيوعية العمالية هي إتجاه في قلب تيار صراع وإحتجاج طبقي ولذا تجتذب أفضل عناصر هذا الصراع وأكثرها نشاطاً وإعتباراً. وفي الطرف المقابل فإن المنظمة اليسارية اللاعمالية، وبمعزل عن طولها وعرضها، هي الفرقة وهي نقطة الشروع النضال بالنسبة للفرد. ولذلك تختار عناصر تتناسب مع خصائصها الداخلية الذاتية. بالنسبة للشيوعية العمالية،العضو الجديد هو إنسان ومناضل إجتماعي ومنغمز الآن في خضم الصراع. أما بالنسبة لليسار اللاعمالي فإن العضو الجديد هو إنسان مجرد وفاقد لتاريخه وله خواص فردية يمكن للمنظمة الإستفادة منها. وهو عنصر يمارس نشاطه الجماعي الآن بسبب إنضمامه للمنظمة وبإضافته للعناصر المشابهة له للمرة الأولى. ومن غير شك تنظر الشيوعية العمالية الى الحركة الإجتماعية التي تنتمي لها وتسعى لكسب ناشطي تلك الحركة نحوها، في حين أن اليسار الراديكالي اللاعمالي ينظر الى المجتمع بشكل عام ومجموعة العناصر الإنسانية الموجودة في المجتمع ويتعقب الأفراد المستعدين لقبول فكر المنظمة، وقوالبها النضالية والوظائف التي تعرّفها. وعلى أية حال فإن كل تنظيم وكل تقليد يختار عضوه وناشطه. والأختلاف هو هنا في أن جزءاً مهماً من هذا الإختيار يجري بالنسبة للشيوعية العمالية والحزب الشيوعي للعمال في قلب النضال العمالي الآن. فالعضوية بالنسبة لهذا التقليد هي إتحاد مناضل آخر من أجل قضية العمال في الحزب السياسي للطبقة من أجل إنجاز خطة مشتركة ودفعها للأمام. أما بالنسبة لليسار اللاعمالي فإن كل هذا الإختيار يتم من قبل المنظمة ووفق معاييرها وعضوية الفرد تعني هنا دخوله في الميدان العملي والآكسيوني الذي تقصده المنظمة.
 

النسيج اللاعمالي: المبررات والوقائع

لقد تبين حتى الآن في بحث العضوية العمالية واليسار الراديكالي ضرورة إقصاء مسألة العلاقة الإجتماعية للمنظمة بالطبقة العاملة وإنتظار إستناد المنظمة على الإتجاه النضالي داخل صفوف الطبقة نفسها والبحث في مسألة علاقة الفرد العامل بالمنظمة. وحين نصل الى بحث العضوية العمالية والحزب الشيوعي، علينا أساساً التطرق لهذه العلاقة الإجتماعية. ولكن وبقدر تعلق الأمر باليسار الراديكالي، فإن المسألة تدور حول كيفية عضوية الآحاد من العمال في هذه المنظمات وبعبارة أخرى النسيج الطبقي لنفس المنظمة.

إن لاعمالية نسيج منظمات اليسار الراديكالي ليست شيئاً تم إلباسها إيّاه. فهذه الحقيقة، أو بعبارة أخرى هذا التناقض الواضح بين العلاقة التي تقيمها المنظمة مع البروليتاريا على الورق والإنفصال العملي لها عن العامل في عالم الواقع، تم إيجاد المبررات المختلفة له بمختلف الأشكال في المنظومة الفكرية لمختلف إتجاهات اليسار الراديكالي. وإذا حللنا هذه المبررات التي تم التنظير لها علناً في التقاليد اليسارية من مثل خط النضال المسلح، اليسار الليبرالي، التروتسكية وغير ذلك، فإننا نجد لها مجموعة من المكونات الأساسية. أولها هو قضية كبت الحريات والقمع السياسي. وعلى العموم يقال أن القمع السياسي هو العقبة أمام الإتصال الواسع للمنظمة مع العمال، فالعمل مع منظمة شيوعية هو أمر خطير ومغامر، ويستلزم توجه العمال نحو المنظمة الإشتراكية وجود قدر من الديمقراطية والأجواء الديمقراطية في المجتمع وغير ذلك. وهنا ينبغي التساؤل لماذا لايؤثر نفس هذا الكبت والقمع على المثقفين؟ لماذا لم يشكل هذا الكبت والقمع عقبة أمام تشكيل عشرات المنظمات المسماة بالشيوعية المؤلفة من الطلبة والمتعلمين؟ ولماذا عجز العمال بكميات أكثر بمئات المرات من نظرائهم عن مجارات مثقفي الطبقات اللاعمالية في أن يكونوا أشخاص "مخاطرين" ويصلحون لهذه المنظمات؟. الذريعة الأخرى هي مسألة دور النظرية والوعي في النضال الشيوعي. يقال أن الصفة الشيوعية والعضوية في المنظمة الشيوعية تتطلب مستوى عالي من الوعي السياسي والفهم للنظرية الإشتراكية ويبدو أن المثقفين هم في مكانة أكثر مناسبة للحصول هذه المستلزمات وحيازة هذه الخصيصة. ويطرح هنا أيضاً السؤال التالي: أليس للوعي علاقة بالوجود الإجتماعي للفرد؟ كيف يعجز ملايين البشر الذين يتموضعون في مكانة إجتماعية من المقرر أن تكون النظرية الإشتراكية لسان حالهم وراية إحتجاجهم بسببها عن إنتاج أولئك الناس ذوي الوعي السياسي لملأ الفراغ الذي تملأه نفس المنظمات الإشتراكية الموجودة؟! كيف يقبل أشخاص ما النظرية الإشتراكية ومكانة أولئك الأشخاص الموضوعية ووجودهم الإجتماعي لايستلزمان قبولها من قبلهم في حين أن الملايين من الناس الذين بحاجة لهذه النظرية وهي نظريتهم بسبب مكانتهم الموضوعية يعجزون عن فهمها وقبولها على صعيد واسع؟! والذريعة والمبرر الثالث هو وجود إتجاهات غير إشتراكية سائدة على العمال. ويبدو أن منظمة اليسار الراديكالي إنعزلت عن العمال بالضبط بسبب راديكاليتها! وهي تعاني من وقوع العمال تحت تأثير النقابية أو الأحزاب الإصلاحية، وتآثرهم بالدين وغير ذلك. وهنا ينبغي التساؤل أيضاً ما هي المميزات الخاصة التي ميزت مثقفي الطبقات المالكة للخلاص من نفوذ الأفكار والقيم والآراء السائدة في المجتمع والتي هي تتناسب مع مكانتهم الموضوعية ومصالحهم المادية كأفراد معينين وفي نفس الوقت ما هو النقص الولادي الذي يعاني منه العمال بحيث يصعب فصلهم عن هذه الميول والأفكار؟

وقبل أن تكون هذه الحجج والمبررات، التي يرى كل طرف وتيار في تقاليد اليسار الراديكالي تطابقها مع حالته أو تطابق بعض منها، أسباباً توضح علل إبتعاد العمال عن اليسار الراديكالي، هي دلائل أخرى على الرؤية اللاعمالية لهذه التيارات وتصورها عن الصراع الطبقي والسياسي وحتى عن النظرية الإشتراكية. في نفس الوقت هي لاتمنحنا ولا حتى ذرة بسيطة من الفهم الصحيح عن مسألة العلاقة، أو في الواقع قطيعة وعزلة اليسار الراديكالي عن العمال. والحقيقة هي أن لمنظمات اليسار الراديكالي الحالي خصائص نظرية خاصة وأسلوب وشكل للوجود والنشاط التنظيمي والسياسي الخاص بحيث لاتقدم أية أمكانية أمام العامل للإستفادة منها كوسيلة للنضال الوحدة والإتحاد.
 

معايير وآليات الرفض والقبول

يدل النيسج اللاعمالي لليسار الراديكالي على أن العامل حتى كفرد لايشكل عنصراً ومادة بشرية مناسبة لبناء تشكيله وهيكل منظمات هذا التقليد. وتعمل آليات ومعايير رفض وقبول الأفراد بضرر العامل وبصالح المتعلمين الشباب من أبناء الطبقات المرفهة وشبه المرفهة في المجتمع. فما هي هذه الآليات؟

لنتذكر الشروط الكلاسيكية لكسب الأعضاء في الأحزاب الشيوعية: قبول الرنامج، قبول النظام الداخلي، والعمل في إحدى الوحدات التنظيمية. هذه الشروط هي مبدأية وصحيحة تماماً. ولكن هذه الشروط لاتبيّن فقط علاقة حقوقية صرفة بين الفرد والمنظمة، بل تبيّن وتعكس علاقة واقعية وإجتماعية. وهذه الشروط هي التعبير المكثف عن حقيقة أن على الفرد قبول الأهداف والتطلعات الخاصة بالمنظمة، وتأييد أسلوب النشاط والحياة السياسية للمنظمة في المجتمع والمعايير والعلاقات الداخلية للمنظمة والتطابق والإنسجام معها وأخيراً إنجاز وتحقيق الوظائف المحددة التي يقررها برنامج وخطة نشاط المنظمة. بعبارة أخرى على الفرد أن يكون وتنظيمه من نوع واحد من الناحية السياسية والعملية. ولكن اليسار الراديكالي الايراني كان يفتقد أساساً للبرنامج أو النظام الداخلي المدوّن. وهذا ما يتم السعي الآن لإيجاده بين صفوف بقايا هذه التيارات. ولكن على أية حال وحتى في حالة عدم وجود البرنامج والنظام الداخلي المكتوب يمتلك اليسار الراديكالي آلياته الخاصة في معرفة العناصر التي يراها مناسبة له من النواحي الفكرية والعملية. آليات أخرى بعضها إرادي وواعي والبعض الآخر عفوي وإجتماعي، تضع نفس الشروط الأصلية أمام الأفراد. ولكن ما علينا تشخيصه هو كيف تغربل هذه الآليات الأفراد من النواحي الفكرية والعملية وكيف تعقد بشكل خاص توجه العمال نحو هذه التنظيمات وتجعله أمراً صعباً وغير ممكن.

إن كل تقليد سياسي يطرح شاء أم أبى تصوره عن مميزات وملامح المناضل النموذجي. فأهداف منظمةٍ سياسية، إسلوبها النضالي، أخلاقها، لغتها ومشاغلها وغير ذلك تطرح تصوراً وصورة عامة عن المنظمة والناس الذين بإمكانهم أن يجدوا مكانهم فيها. وصياغة الشخصية من قبل تقليد لأبطاله، والملامح الفردية والسياسية للعضو النموذجي يطرحها كل تقليد بشكل نموذج وقالب محدد ويضعها أمام المجتمع. ولهذا فإن مسألة عضوية الفرد في المنظمة لاتبدأ من السؤال كيف يستطيع مجموعة من البشر بسبب مكانتهم الإجتماعية قبول تلك الإهداف والأساليب والتميّز بملامح ومميزات العضو النموذجي. فعلى السبيل المثال كانت التقاليد الفدائية قبل الثورة (ثورة عام ١٩٧٨- ١٩٧٩ الايرانية- المترجم) تحبذ نوعاً معيناً من الناس. وكذلك التقليد الماوي، التقليد الإشتراكي الديمقراطي، التقليد التروتسكي وغيرها، كل واحد منها كان له نموذجه عن الناشط النموذجي. وحين ندقق في ملامح هذه النماذج السياسية، سنرى بالتدريج تشابهها مع عناصر طبقات وشرائح إجتماعية معينة هي التي أنتجت هذه التنظيمات. وسنرى خلف الصورة الإسطورية والمثالية للبطل النموذج، سنرى البشر الواقعيين المتموضعين الآن في موقع إجتماعي وإنتاجي واقعي. خلف عنصر الفدائي، بنكرانه لذاته، بنفاذ صبره السياسي، بكرههه ونفوره من الإستبداد، بعدم ثقته بقوى الطبقات الإجتماعية، وبالرسالة المكلف عوض ذلك بتحقيقها كبطل، وغير ذلك، نرى خلفه ملامح الطلبة الفنيين والصناعيين الذين يتخلون ببطولة عن مستقبلهم المضمون من أجل خدمة الشعب. وكان العنصر الفدائي في مرحلة الشاه رمزاً لتنامي الضمير الإصلاحي بين أوساط الشباب المتعلمين وتطلعات البرجوازية المستقبلية. وخلف نهضة الحرية ومجاهدي خلق يكمن جيلان من إحتجاج السوق، بكل محليتهما، تخلفهما الأخلاقي وإبتعادهما عن الحداثة والتمدن اللذين وجدا مكانهما في هذه المؤسسة التقليدية في المجتمع. وخلف التروتسكية واليسار الليبرالي الايراني، يمكن بسهولة تامة رؤية ملامح المثقف المطلع على الثقافة الأوروبية الغربية والخجل من عالمه الثالث.

إن التقاليد السياسية التي تنامت داخل شرائح المجتمع الايراني هذه، وشكلت جميعها اليسار الراديكالي المعاصر، لها حدودها الفاصلة من غير شك مع الطبقات والشرائح الإجتماعية التي إنبثقت منها ومع الحياة الروتينية لها.الاّ أنها في خاتمة المطاف لم يكن أمامها سوى إتخاذ اساليب تتناسب مع نضال تلك الشرائح، أساليب مستلهمة من الآفاق اإجتماعية والإمكانات المادية لتلك الشرائح. وكان من المحتوم تناسب الحياة السياسية والأساليب النضالية لهذه التيارات مع الوجود الإجتماعي لتلك الشريحة التي تناست في خظمها.
 

المعيار الأيديولوجي: مسألة النظرية وقبول البرنامج

ينبغي بتصوري البحث عن أول العقبات أمام إقتراب العمال من منظمات اليسار الراديكالي هنا. فكلا الأفكار النظرية لهذه التيارات ومكانة النظرية لديها، تجعل العامل بعيداً عنها. النظرية بالنسبة لهذه التيارات من الناحية الجوهرية، هي كما قلت، التبرير النظري للأهداف الإجتماعية والنضال السياسي التي هي في حّد ذاتها ذات مضمون ومحتوى غير عمالي. وهذا يجعل بالدرجة الأولى من محتوى ومضمون النظرية لدى هذه التيارات أمراً غامضاً وعصياً على الفهم بالنسبة للعامل. فالبيان الشيوعي، نظرية ماركس حول جذور الإستغلال في المجتمع الرأسمالي، نظرية الحزب العمالي، نظرية الأممية العمالية، النظرية الماركسية عن الدولة وما شابه ذلك هي كلها بالطبع مفهومة وواضحة بالنسبة للعامل، ولاتحتاج النصوص الكلاسيكية الماركسية للتبسيط من أجل نشرها داخل الحلقات العمالية. فوجود ترجمة واضحة لها أمر كافي. أما تقسيم البرجوازية الى صالحة وصالحة، فهم نظرية تصنيف البرجوازية الصغيرة الى أجنحة مختلفة، فهم خصائص الرأسمالية غير التابعة، فهم التضاد بين السافاك والشرطة المحلية، فهم ثورة في ستة مراحل بمساعدة كتاب "في التناقض" لماوتسي تونغ، وبإختصار فهم كل هذه الخزعبلات التي ترسلها مراكز الفكر البرجوازي وآلة الفكر البرجوازية الصغيرة الى سوق العقائد بإسم الماركسية، يحتاج الى الفكر المخترق للألغاز والغموض والغافل عن العالم لمثقفي البرجوازية والبرجوازية الصغيرة. وإقناع العامل بأن يحمل روحه على راحته في سبيل تلك الخزعبلات هو من غير شك أمر شاق وعسير جداً. إن اليسار الراديكالي يواجه حقيقة أنه حتى لو عبر عن هذه الأهداف بلغة الأطفال، وحتى لو شرح النظرية بلغة العامة من الناس، ما يزال العامل لايفهمه. فالقضية تدور حول الطابع اللاعمالي لهذه النظرية وعدم تطابقها وإنسجامها مع قضية العمال. وإرتقاء الوعي السياسي للعامل سيكون مبعث إبتعاده عن هذه النظريات وعن المنظمات التي تستند عليها. إن اليسار الراديكالي وحسب تعريفه يعجز عن جذب العامل الواعي والمدرك للمصالح الطبقية،لأنه لايستند الى نفس الوعي الطبقي. وبمعزل عن مضمون النظرية ومحتواها، فإن إسلوب تعامل اليسار الراديكالي مع النظرية، ومكانة النظرية بالنسبة لمثل هذا التيار، تساهم هي أيضاً لتشكل عقبة أخرى أمام العمال. فقد تشكلت منظمات اليسار الراديكالي عموماً على أساس "الأيديولوجيات" وبالطبع تشكل "النظرية" و "الأيديولوجيا" أهم معايير الإنضمام إليها. وتشكل الأيديولوجيا والإيمان بالإشتراكية دليلاً ومعياراً مهماً أيضاً في كل منظمة شيوعية عمالية. إلاّ أن القضية تدور حول التصور الموجود لدى تقليد اليسار اللاعمالي عن النظرية والأيديولوجيا وعلاقة هذه الأيديولوجيا بالفرد والناشط التنظيمي. فالأحزاب اليسارية الراديكالية نمت وكبرت خارج التقاليد العمالية ومن ثم فإن ظهورها كان بالدرجة الأولى حصيلة النفي النظري للفكر والمعتقدات الرسمية للمعارضة البرجوازية. وقد كان الكثير من هذه التيارات حصيلة الإنشقاق عن الليبرالية، القومية، الحركة الإصلاحية وحتى المعارضة الدينية. وتشكلت هذه التيارات منذ البداية من عناصر إضطرت لنفي مكانتها الموضوعية الإجتماعية كجزء من الطبقات المالكة من أجل الراديكالية وما يسمى بالماركسية، أياً كان تصورها عنها، وبمساعدة أفكارها ومعتقداتها ورؤاها. لقد إضطرت تلك العناصر البشرية نفي مكانتها الإجتماعية وتعريف ذاتها وفق ايديولوجيتها وعقائدها. إضطرت إستخلاص قيمتها كبشر وكعناصر مناضلة في المجتمع، في مواجهة الطبقات التي إنحدرت منها، وبناءاً على أفكارها وأيدولوجيتها الراديكالية. وقد إستأصلت تلك العناصر نفسها من مكانتها الإنتاجية والطبقية لتصبح "يسارية". ولذلك وضعت الأيديولوجيا والفكر معياراً أساسياً في تقليدها التنظيمي الذي أوجدته، لأن هذا هو المعيار الوحيد الذي يبين إنفصالها عن طبقتها. ولذا تضع ذلك على اللوحة التنظيمية التي تقوم بتشكيلها. وأي شخص يتبلور لديه خلاف مع الآخر في الأيديولوجيا والنظرية، سيكون مرتداً الى طبقته التي أولاها ظهره سابقاً حسب ما سيزعمه الطرف الآخر. وسيكون الإختلاف النظري كافياً للتحول الى البرجوازية، لأن النظرية وفق في هذا التصور نفسه هي دليل وعلاقة إنفصال هذه العناصر عن طبقتها. ومن هذا المنظار لاتشكل النظرية بالنسبة لهذه التيارات وسيلة لفهم المجتمع والعالم الخارجي ورسم ملامح النضال الإشتراكي، ولاتشكل نقداً معيناً، بل تشكل معياراً ومحكاً مذهبياً لتحديد الذات والآخر الغريب.

وبهذا الشكل تجمدت النظرية وتحولت الى معيار لمعرفة الإنتماء الطبقي، وهذا حتّم غموضها أيضاً. لأنها: أولاً: يجب أن تكون بشكل أحكام يمكن القسم بها وثانياً: يجب أن تكون هذه الأحكام دقيقة وواضحة وعلمت تفاصيلها وجزئياتها بحيث تحدد الفرق والإختلاف مع الآخرين. وهنا تتحول النظرية الى أحكام للرفض والقبول، وصياغات تكون كل كلمة فيها حاسمة وقاطعة لأنها تبين الحدود الفاصلة بين هذه الفرقة وبين الآخرين. صياغات مقدسة إما أن يكون الإنسان مؤمناً بها أو لا. فإذا كان مؤمناً بها فهو عضو في الفرقة وإن لم يكن مؤمناً فإنه ليس بعضو.

وتشكل هذه معضلة وحالة موضوعية. فالحقيقة هي أن المثقف البرجوازي إشتراكياً كان أو غير إشتراكي يمثل من الناحية الإجتماعية آفاقاً ومصالح طبقية متضادة ومتناقضة تماماً. والمعيار النظري وإن لم يكن له فهم مذهبي، هو معيار حتمي لأرتباط المثقفين بالمنظمة الماركسية. ولكن المعضلة تكمن هنا في أن اليسار الراديكالي يعّرف ويحدد هذا المعيار بتعميم مكانة المثقف المحتج من أبناء الطبقات الحاكمة، ويفرغه في الواقع من أي معنى ومن أية قيمة ويستخدمه بنفس الشكل في حالة العمال. وسيصبح إرتباط العامل بمنظمتهم الشيوعية مرهوناً بإجتياز إختبار نظري هزيل وصعب تضعه المنظمة للقادمين الجدد وفق تاريخ إنقطاعها الأيديولوجي عن البرجوازية. المعضلة تكمن هنا في أن هذه المنظمات بهذا الفكر وبإسلوب التشخيص هذا للفصل بين الذات والآخر الغريب، ستواجه الطبقة العاملة التي ليست بحاجة لنفي إنتمائها الطبقي ومكانتها الموضوعية في الإنتاج كي تكون ثورية وإشتراكية. وفي الواقع هي لاتستطيع نفي ذلك. بل إن المسألة هي بالعكس تماماً، وبالضبط هي وبسبب مكانتها وتموضعها في هذه الموضوعية تنجذب نحو الإشتراكية كفكر وهدف و تستخدم النظرية في خدمة نضالها. فالعامل ليس بحاجة لنقد فلسفي عميق ليتأمل ذاته كفرد ويصفي حسابه معها ومع إنتماءه الإجتماعي ليصبح إشتراكياً ويتموضع في خندق النضال ضد الرأسمالية. فالتموضع في هذا النضال والصراع هو المكانة الأولية والبديهية والمعطاة لكل عامل في هذا المجتمع. إنه ليس ببرجوازي. ولا تربطه صلة بالملكية وفائض القيمة. فهو بإمكانه أن يبقى في مكانه في المجتمع الإشتراكي ويناضل بوصفه إشتراكياً. وليس للنظرية الماركسية مثل هذا الطابع الكلائشي ومثل هذه الخصيصة المذهبية والصوفية بالنسبة للعامل وتحويل هذه النظرية الى مثل هذه الظاهرة لن تكون له أية نتيجة سوى إبعادها عن متناول العامل ومن ثم إبقاء العامل بعيداً عن مثل هذه المنظمة.

وحين يتحدث اليسار الراديكالي عن قبول البرنامج أو الأيديولوجيا والأهداف كشرط للعضوية، فإنه يشير في الواقع الى قبول منظومة فكرية غامضة ومعقدة، ومجموعة من الكلمات القصار والكلائش العصبوية والتنظيمية وإمكانية تكرارها وإعادتها من قبل الفرد. فإذا كان هناك برنامج، فإنه سيكون على الأغلب نفس الكلمات والصياغات الكليشية. وستعبر كل كلمة في البرنامج الذي من المقرر أن يكون موجزاً وبعيداً عن التكرار، ستعبر عن عالم من الحدود الفكرية الفاصلة عن بقية الإتجاهات والميول في كل تاريخ اليسار. وإذا لم يكن هناك برنامج، ستشكل مقالات الصحف، والمناظرات وغير ذلك الشواخص اليديولوجية لإختبار الرؤية والتصورات النظرية للفرد. وسأعود لاحقاً في بحث سياسة الحزب الشيوعي في كسب الأعضاء الى معيار "قبول البرنامج". إلاّ أن عليّ الإضافة هنا أن معيار النظرية والفكر يعمل بشكل متشابه في كل تقاليد اليسار الراديكالي الايراني وتياراته. فقد شكل عدم الإهتمام بالنظرية واحدة من خصائص ومميزات اليسار الراديكالي الايراني البارزة. ولكن هذا لايعني غياب المعيار النظري في قضية كسب الأعضاء. بل على العكس، فعدم كتابة فكر المنظمة، عدم وجود البرنامج وغير ذلك، حلّ محلّها نوع من "الإجتهاد" الفردي للأفراد والكوادر القديمة وذات الصلاحيات المطلقة وعملية معقدة من الإختبار للعقائد الفردية. فالمنظمة التي تفتقد للنظرية تختبر أيضاً الفرد من الناحية الأيديولوجية. والأختلاف هنا في تحول هذا الإختبار في هذه الحالات الى عملية لأسوأ المحاكمات الذهنية، العصبوية، الأخلاقية والمتخلفة للأفراد. ويعلن في هذه المحاكمات الطابع المثقف البرجوازي الصغير لليسار الراديكالي الحالي وإغترابه عن النضال العمالي وقضية كسب العمال الى المنظمة، يعلن عن نفسه بأكثر الأشكال وضوحاً.
 

إسلوب العمل والحياة السياسية لليسار الراديكالي

يطرح الى جانب المعيار الأيديولوجي، معيار إسلوب العمل وطريقة الحياة السياسية للمنظمة. فكلما كانت التشكيلات متخلفة من الناحية النظرية، كلما تجسدت أكثر المعايير والإختبارات العملية لقبول الأعضاء. وعلى الفرد بأية حال أن يقدم "إمتحانه" للمنظمة. وهذا الإمتحان هو إختبار للوفاء، والإنضباط والإمكانية العملية لإستيعاب القوالب النضالية التي تتشكل على أساسها المنظمة. ولكن ماهي هذه القوالب والأطر؟ ومن الأفضل ان نتأمل مجدداً الملامح الإجتماعية للعضو النموذجي. كما قلت فإن المنظمة اليسارية الراديكالية الايرانية المؤلفة من المثقف البرجوازي والبرجوازي الصغير المحتج، قائمة على أساس تنصل الفرد وتخيله عم مكانته الإجتماعية والإنتاجية. وقلت أن هذا شرط من شروط إشتراكية البرجوازي وتحويله الى مناضل إشتراكي وراديكالي وليس العامل. والمنظمة لها علاقة بالآحاد المنفردة من الأشخاص وليس بالشرائح والطبقات. وما جعل ويجعل فرداً ما عضواً صالحاً لهذه المنظمة، قابليته على "النفي" و التخلي عن الأشياء المختلفة، من مثل مطالبه الإجتماعية السابقة، أخلاقه السابقة، رفاهه، عائلته وعلاقاته الشخصية، إلتزاماته المادية. ولايمكن لإسلوب نضال المنظمة أن يتخذ ويطبق إلاّ من قبل مثل هؤلاء الأفراد. وحين نتأمل هذه الإنتماءات والعلاقات نجد أن الفرد البرجوازي في مكانة أكثر مناسبة للتخلي والتنصل عنها، لأنه حتى يتخلى عنها سيتحول الى المثقف المتمرد والساخط لنفس الطبقة، ولن ينحدر ويهبط الى سلّم إجتماعي أوطئ. فتمرد البرجوازي على قيم ومناهج طبقته وعلاقاته الفردية وإنتماءاته لن يحول الى إنسان مضطهد وذو مرتبة دنيا في المجتمع. ومثل هذا الفرد لا كرامته الإجتماعية وحرمته ستسقط ولا يداهم الخطر حتى أمنه الإقتصادي بشكل جدي. وحتى من الممكن أن تحسب هذه للمثقف البرجوازي كحساسية زائدة والرغبة في الإنتقاد، وقابلية الإحترام، ومن المحتمل أيضاً أن تُعد جزءاً من مغامراته الشبابية الماضية. وستظل أحضان البرجوازية مفتوحة دائماً لإحتضان الشبيبة المتمردة والمغامرة في الأمس. ومهما تمرد المثقف البرجوازي وخرج عن قيم وأخلاق طبقته، لن ينحدر ويسقط الى المكانة الإقتصادية غير الآمنة والعديمة الأفق لعامل معين. فالمجتمع يرى في كل الأحوال في الرفاه المادي والأمن الإجتماعي حقاً من حقوقه. وقد تبلورت منظمات اليسار الراديكالي تقليداً في التمحور حول هذا الكائن الإجتماعي واكتسبت قواها من هذه الفئة الإجتماعية، من هذا الكائن الموجود في المجتمع والقادر على لفظ كل خصائصه ومكانته والإجتماعية والتحول الى إنسان مجرد من كل القيود الموضوعية الإجتماعية. وفي عالم الواقع ينبغي الحصول على هذا الكائن من يبئة الدراسة والمحيط الطلابي. فالطالب، وذلك القسم الذي ليس من المفترض به إنهاء تعليمه لإنقاذ أبيه وأمه من العمل الإضافي وغير ذلك أو لدفع أجور تعليم أخته وأخيه الأصغر، هو المادة والعنصر الأفضل لمثل هذا التقليد السياسي. مثل هذه التنظيمات ليست مكاناً للعامل. فالعامل يعجز في الواقع عن أخذ مكانه في هذه التقاليد السياسية وهذا الإسلوب من الحياة من دون أن ينفي مكانته كعامل. ولكن الموضوع لاينتهي عند هذا الحد. لأنها تتأسس على أساس الشخصية والمميزات الإجتماعية، منظومة القيم والأخلاق الفردية والعدمية(النهليستية) في نفس الوقت، التي تتناقض تماماً مع الحياة والكرامة الإنسانية. فالعامل هو المدافع عن الحياة. والنضال العمالي هو نضال من أجل تحقيق رفاه البشر وتمتع الإنسان بالمنجزات والمواهب الطبيعية والإجتماعية. ولكن خلف الأخلاق المقيدة والمتخلفة لليسار الراديكالي اللاعمالي الايراني، يمكن رؤية النقد البرجوازي الصغير المتخلف والخوف من الصناعة والتمدن لدى بلد متخلف بوضوح تام. إن العامل كقوة إجتماعية لاتربطه أية علاقة بمثل هذه الرؤية والأخلاق. فقد كانت اللامبالات السياسية والفردية والتطلع للشهادة والإستهانة بالعلاقات والمودة الإنسانية ونفيها والإخلاق شبه الدينية، فقط نماذجاً ملموسة لهذا الأسلوب من الحياة السياسية اللاعمالية. إلاّ أن إختراق هذه العصبيات البرجوازية الصغيرة للحياة السياسية لليسار اللاعمالي وترسخها فيها ليست قاصرة على هذه فقط بل إنها تطفوا على السطح من أي منفذ داخل هذا التقليد السياسي. وفي الواقع فإن تناقض النضال السياسي الراديكالي مع الحياة البرجوازية الموجودة لدى تقاليد اليسار الراديكالي السياسية وتياراته، والتي تبلورت وأنبثقت من هذه البرجوازية وبنفيها لحياتها، يعمم كتناقض مع الحياة بشكل تام وكلياً.
 

العلاقات الداخلية

على أية حال فإن إسم الشيوعية والإشتراكية هو على قدرٍ من الإعتبار لدى العامل بحيث أن العديد من العمال وعلى الرغم من هذه العقبات يصلون بأنفسهم ويتوزعون داخل منظمات اليسار الراديكالي. ولكن هنا أيضاً يعلن تناقض البيئة مع العامل والهوية العمالية عن نفسه. فالعامل داخل هذه التنظيمات آلي وغير إجتماعي. فقد سلبت منه كافة المميزات والخصوصيات التي تجعل منه مناضلاً مقتدراً ضد الرأسمالية. فهو الآن ليس بقائد ذلك الجزء من نشاط العمال، وليس المحرض الجماهيري. والمنظمة لم تكن تريده بهذه المميزات والإمكانات والخصائص ولم تستطيع الإستفادة منه بهذا الشكل. ولهذا يكتسب العمال الذين يصلون بهذا الشكل الى منظمة اليسار الراديكالي اللاعمالي طابعاً إستعراضياً بسرعة كبيرة جداً. فإذا أُعتبر غموض النظرية وقابلية الدعاية لها وتكرارها معياراً، إذا أُعتبر الإجتثاث والسلخ من المكانة الإجتماعية والإلتزامات الإجتماعية والتحول الى إنسان مجرد معياراً، أي تلك القوالب والأطر التي بإمكان المثقف الشاب المجرد والفارغ البال البرجوازي والبرجوازي الصغير أن يتقولب بها بسهولة أكبر، حينذاك سيبقى العامل في نفس التنظيمات عضواً من الدرجة الثانية. سيبقى جندياً بسيطاً ينبغي قيادته وإرشاده. وسوف لن يصبح مرجعاً تنظيمياً، ولن يكون له دور في صحافته ودعايته وتحريضه، ولن يستطيع المشاركة في مؤتمره وهكذا دواليك وهلم جرا. تأملوا فقط النشاطات التي يتعهد بها العمال في مثل هذا الطراز من التنظيمات لتروا هذا "الإنقسام الطبقي" داخل المنظمة.
 

خلاصة الكلام

إن منظمة اليسار الراديكالي اللاعمالي تعيد إنتاج طابعها ونسيجها اللاعمالي بشكل ذاتي ومنظم. فعدم تموضعها في قلب الإحتجاج العمالي وعدم إنضوائها تحت راية تغيير المجتمع على أساس التطلعات والأهداف العمالية، هي الجذور الأصلية لإنفصال العامل عملياً وقطيعتها مع هذه المنظمات. ولكن على الصعيد العملي يتحقق هذا الإنفصال الطبقي ويكتسب ماديته عن طريق آليات محددة يتم من خلالها إختيار العناصر المناسبة للمنظمة والتي تتطابق مع حياة وأسلوب نشاط المنطمة السياسي. وبالنظر الى الخصائص الفكرية، التنظيمية واسلوب العمل لدى منظمات اليسار الراديكالي يمكن أن نرى بوضوح تام كيف أن العامل لايشكل المادة المناسبة لبناء الهيكل التنظيمي لهذه التنظيمات. فالإختبارات الفكرية والعملية التي يجريها التنظيم لإختيار الأفراد المناسبين له، تطرد العامل وتجتذب المثقف بإنتظام تام.

ساتطرق في القسم اللاحق لمسألة الى أيّ حد خرج الحزب الشيوعي الايراني فيه عن مكانته الإجتماعية والإنعتاق من هذه الآليات. وبقدر تعلق الأمر بالحزب الشيوعي الايراني، فإن المادة الأساسية للبحث هي الوجه الإجتماعي لقضية العضوية العمالية. وسأتطرق لهذا الأمر بالتفصيل أكبر. ولكن في نفس الوقت سيستلزم ذلك أيضاً أن نحلل ونراجع الوجه الفردي لقضية العضوية والمعايير الموجودة لكسب الأعضاء من قبل الحزب ونقاط الضعف الموجودة في هذا البعد من القضية. وأخيراً سأشير الى الخطوات اللازم إتخاذها بسرعة من قبل الحزب الشيوعي لتسهيل عضوية العامل وكذلك سأشير الى قرار الإجتماع الدوري الخامس للجنة المركزية المقرّ بهذا الخصوص.

منصور حكمت

تمت الترجمة من النص الفارسي المنشور في المجلد السابع لأعمال الرفيق منصور حكمت الكاملة.
ترجمة: يوسف محمد


Arabic translation: Yousif Mohammad
hekmat.public-archive.net #2380ar.html