اسلوب العمل الشيوعي
قبل ثلاثة اعوام، وفي بداية مؤتمر اتحاد المناضلين الشيوعيين، ربما كانت عبارة "اسلوب العمل الشيوعي" غير مالوفة وغريبة. قد تبدوا هذه العبارة، للوهلة الاولى، في ذهن البعض، مجموعة من المباديء والموازين الادارية او المتعلقة بالنظام الداخلي للتنظيمات. رغم انه ثمة اشارات واطروحات في ادبيات البلاشفة والكمنترن تتعلق بمسالة اسلوب العمل، لم تتطرق الحركة اليسارية في ايران حتى ذلك الوقت الى هذه المسالة في اي من نقاشاتها ووثائقها المدونة. عَدَّ مؤتمر اتحاد المناضلين الشيوعيين (ا.م.ش) نقد اسلوب العمل الشعبوي حلقة اساسية في تطور الحركة الشيوعية، واعتبر اسلوب العمل الشيوعي معضلة بقدر القضايا البرنامج واداة التجاوز الشامل للشعبوية والتحريفية.
سعينا في السنوات الثلاثة المنصرمة الى توضيح اهمية هذا البحث على الصعيد العلني. وبالاخص بعد تاسيس الحزب الشيوعي، كان توضيح المعنى العملي لاسلوب العمل الشيوعي في الميادين المختلفة من الممارسة التنظيمية و اسناد نشاط التنظيمات الى هذه الاستنتاجات العملية، هو شغلنا الشاغل وانهماكنا الدائم. ينبغي القول اننا نجحنا في تحقيق ذلك. لقد حققت هذه المساعي لحد الان مكاسب ملموسة لنا. بدون تلك الحملة النقدية الواسعة والقوية والمقتدرة دون شك على التصورات الشعبية العامة للتنظيم الشيوعي وعلى مجمل اشكال الفهم والاخلاقيات والعمل والممارسة المستمدة منها، لم نكن لنبلغ مكانتنا الراهنة اليوم فيما يخص اعادة بناء التنظيم الحزبي، استناداً الى نشاط الخلايا، عمالية بنية الفروع الحزبية في المدن واتخاذ ممارسة متنامية رغم القمع القائم. ان هذه المكانة العملية التي ارتقت درجات هي نتاج السعي النظري الدؤوب في المقام الاول.
ولكن مايبعث على الاسف ان ثمة ميول وتصورات معينة تعمل بالضد من التعمق المتعاظم والاكثر رسوخاً لفهمنا لاسلوب العمل الشيوعي. ماهي هذه التيارات السلبية والممانعة؟
۱- تحويل النظرية والنقد الى امر كليشهي ولفظي: انها مصيبة تحل تقريباً على كل فكرة خلاقة واي نقد حي ومؤثر. انها المصيبة ذاتها التي حلت على مفهوم "الشعبوية" في حركة اليسار. نواجه في صفوف الحزب او خارجه على السواء حالات مسخ لمفهوم اسلوب العمل الشيوعي. تكرار المفاهيم دون الانتباه وايلاء اهمية لمعناها. اذ حتى "اقليت" و"راه كاركر"-درب العامل- (منظمتين يساريتين شعبويتين-م) يمسكان بخناق بعضهما البعض حول "اسلوب العمل الشيوعي" والنضالات المليئة بالفخر ضد "الشعبوية واسلوب العمل الشعبوي" يهيلوها على رؤوس بعضهم البعض. ولكن ما الذي تفهمه "اقليت" و"طريق العامل" من اسلوب العمل الشيوعي يمكن تفسيره بالضبط من معرفة اسلوب عملهما! ولكن على اية حال، انها مفاهيم تُبْتَذَلْ على اياديهم. ان حصيلة هذا "المد" للمفاهيم ليست سوى تغيير صياغتهم من ادوات تحليلية وتجريدات حقيقية وواقعية الى عبارات طنانة وكليشيهات عديمة المحتوى. حتى في صفوفنا كذلك لايُستخدم مفهوم "اسلوب العمل الشيوعي" بصورة صحيحة دوماً. اذ يستخدم بعض الاحيان في اطر غير صحيحة وغير مبررة، وبعض الاحيان يكون نصب الاعين معناه المحدود، الاداري واليومي ذاته بصورة محض.
۲- ارشفة النظرية، الرضا بالمكاسب الراهنة: للاسف، يبدو في الفترة الاخيرة ان تلك التعريفات الشاملة والاكثر اساسية لاسلوب العمل الشيوعي تغدوا وكانها امر من الماضي. وغدت تلك الابحاث العميقة والاولية اسيرة ثمارها العملية البارزة. اتت ملائكة الانقاذ وحملت الخلايا، التنظيم المنفصل، المباديء السليمة للعضوية في الحزب، المحاسبة والتدقيق، المدارس الحزبية والعمل الحزبي الروتيني كهدية ومضت. "غدا اسلوب عملنا شيوعي" وان مايبقى هو كتابة قائمة "المهام التنظيمية". احيلت المؤسسة النظرية والنقدية الاولية والاساسية الى ارشيف المكاسب النظرية، وتشغل الحصيلة العملية لحد الان لهذا التفكير مجمل ذهنية وعقلية رفاق الحزب. كما لو ان الابحاث الاساسية كانت مجرد مقدمة وفقط مقدمة للاستنتاجات العملية ذاتها لحد الان. بايجاز، يبدو ان التنظيمات في منتصف طريق انفصال عملي جدي عن الاساليب غير الشيوعية، راضية بمكاسبها الراهنة وتبحث عن توسيع هذه المكاسب العملية لاعبر ادامة استخدام النقد الاولي ذاته، بل في استكمال وازالة نواقص ما بلغته فقط. يحتل الجزء مكان الكل والحصيلة مكان المصدر. على سبيل المثال، تحل معضلة "التنظيم المنفصل" ومسائله محل مسالة "اسلوب العمل الشيوعي" بالمعنى الواسع للكلمة. ليس ثمة شك في اهمية تناول مسائل التنظيم المنفصل، بيد ان اسلوب العمل الشيوعي مفهوم اوسع بكثير من عمل الخلية والتنظيم المنفصل والمسائل المتعلقة بهما. يحول قصر النظر هذا دون التحلي بذلك الافق الاوسع الذي ينبغي ان يطرحه نقد اسلوب العمل الشعبوي امامنا. افق يعد الشرط المسبق لبناء شيوعية عملية ذات ديمومة ومقتدرة في ايران. شيوعية تستند بصورة حقيقية الى الطبقة العاملة وتتحول الى تيار داخل هذه الطبقة. لقد كان هذا هدفنا من طرح بحث اسلوب العمل الشيوعي. لازالت المكاسب الحالية مكاسب "تنظيمية" محدودة مقارنة بماينبغي ان نحصل عليه.
اخذاً بنظر الاعتبار النقاط اعلاه، اسعى في هذه المقالة (التي من المحتمل ان تكون في ۲-۳ اقسام) التطرق الى بعض محاور بحث اسلوب العمل الشيوعي. يتمثل هدفنا اولاً بالتذكير بنقاط محورية والتاكيد عليها من زوايا مختلفة ربما. وثانياً، ينبغي وبصورة شاملة تناول وذكر وتعداد الميادين للتمحيص والتعريف الاثباتي (اي ليس النقدي وانما الطرحي-م) باسلوب العمل الشيوعي. ثالثاً، وبالتالي، التوضيح الافضل لاهمية المقالات الصادرة لحد الان حول الميادين المختلفة (الخلايا، العمل المنفصل، الاكسيونيزم (الحركية) التحريض، تنسيق العمل السري والعلني وغيرها) بوصفها اجزاء لفهم عام ومنظوماتي للممارسة الشيوعية.
اسلوب العمل الشيوعي في مسار تقدمنا
كان واضحاً من البداية ان صياغة وارساء حركة شيوعية ثورية، حركة بروليتارية-اشتراكية مبدئية واصيلة ومقتدرة في ايران يستلزم عملية وصيرورة طويلة لحد ما من الفصل والاستقلالية. فصل واستقلالية الشيوعية بوصفها فكر وممارسة عما يقومون بالدعاية له ويمارسوه في المجتمع تحت اسم الشيوعية. ان الشيوعية في ايران في العقد الاخير، اي تلك "الشيوعية" التي ظهرت في ثورة ۷۹ الايرانية، تفصح قليلاً عن شيوعية تُمَثَّلْ بالبيان الشيوعي وافكار واعمال ماركس ولينين. اذ لم تكن هذه الشيوعية الايرانية تيارا بروليتاريا-اشتراكيا لا في الفكر والاهداف والبرنامج، ولا في اصلها الطبقي ومكانتها العملية في الساحة السياسية للمجتمع ولا في هيكلها التنظيمي. ان هذه "الشيوعية" هي شكل راديكالي ومتشدد للاحتجاج المناهض للاستبداد وللامبريالية. لقد كانت نزعة قومية سياسية واقتصادية، وبالاخص بعد الاصلاحات الزراعية الامبريالية لعقد الستينات، تبين وتعكس اجمالاً العقلية والميول السياسية للبرجوازية الصغيرة الحضرية. لم تكن هذه "الشيوعية" اكثر اشكال الادعاء المناهض لراسمالية العصر الحالي طليعية، ليس هذا وحسب، بل كانت عناصر من اكثر اشكال نقد المالكين الصغار تخلفاً ضد هجمات الراسمالية الاحتكارية والتقنية والعصرية والثقافة الراسمالية، حاملة معها الملكية والانتاج الصغير والثقافة والاخلاقيات التقليدية. لم تكن الطبقة العاملة بالاجر، ولا طبقة اممية نقطة انطلاق هذه الشيوعية الايرانية، بل "شعب ايران".
من ناحية المصدر الفكري وكذلك بنيتها التنظيمي، كانت هذه "الشيوعية" توليفة من ارث حزب توده، الجبهة القومية والمعارضة الدينية. اذا اعترض القسم الاكثر طليعية وراديكالية من هذه الحركة الشيوعية بنحو ما على هذا المصدر والاصل، فلم يكن قد بلغه من زاوية نقد طبقي لهذه التيارات الثلاثية، بل من زاوية تقييمها بان هذه التيارات غير صادقة او حتى خائنة فيما يخص النضال من اجل الاهداف غير الراسخة ذاتها. بيد ان المصدر الفكري المشترك باقي على حاله على اية حال. لقد تطورت وتكونت هذه الشيوعية في حضن البرجوازية الصغيرة لبلد تابع وليس البروليتاريا العالمية. من الزاوية العقائدية، لايرى المرء علامة جدية على هدف الالغاء التام للملكية الخاصة، ارساء الملكية الاشتراكية، اقامة ديكتاتورية البروليتاريا، الثورة العمالية العالمية واضمحلال الدولة في الفكر الفعال لهذا التيار. اذ كان "الاستقلال الوطني"، "الدولة الشعبية الديمقراطية"، "التصنيع" و"شعوب الوطن" مفاهيم محورية في فكر وسياسة هذا التيار. في هذه "الشيوعية"، لم يكن الدين افيون الشعوب، بل معتقدات محترمة "للحلفاء المرحليين" للشيوعيين او هذه الفئة العزيزة من "الشعب" او تلك وتعتبر مصدر لنوع من العمل الثوري. ان المساواة غير المشروطة للمراة والرجل، حتى وان يعد هدفاً لفظياً، كان يظهر ويبدو طرحها دوماً في سياساتهم الحقيقية على انها مسالة فرعية وقبل اوانها. كان الهدف العملي الاساسي في هذا الميدان هو النضال ضد "الثقافة الدخيلة" وصيانة "ثقافتنا" من هجمة الاجانب. في هذه "الشيوعية"، لم يكن الصراع الذي يدفع المجتمع ويقدمه صراع العمل والراسمال، بل كان صراع "الشعب والامبريالية". انظر الى المقالات النظرية لهذه الشيوعية الايرانية، وثائقها البرنامجية والتكتيكية، دعايتها، شعاراتها، شعرها، اناشيدها وادبياتها، سترى تلك الراديكالية البرجوازية الصغيرة ، تلك النزعة القومية اليسارية والهروب والفزع السياسي من الاجانب قي كل سطر من سطور كتاباتها. حتى في عام ۱۹۸۰، يواجه اعلان ان "البرجوازية" تعمل بالضد تماماً من الثورة ومصالح العمال، وان راسمالية وطنية ومستقلة واقامة ايران صناعية استناداً لذلك هو اوتوبيا برجوازية، بزعيق هذه "الشيوعية". في عام ۱۹۸۱، لقد كان لكتابة شعار "عاشت الاشتراكية" اسفل مجلة بسوى سوسياليزم (نحو الاشتراكية-م)، كافياً لمقاطعة هذه "الشيوعية" لك والصاق "التروتسكية" بك.
كان ينبغي على الشيوعية العمالية في ايران ان تطرح بوجه هذه الثورية البرجوازية الصغيرة ونقد الشيوعية القائمة فعلاً، بالاضافة الى ذلك تحرير المادة البشرية المتعلقة بك التي كانت اسيرة هذه الخرافات النظرية والقيود التنظيمية وانتزاعها وتحويلها كقوى لها.
وبعدها، حين تمركز بحثنا حول مسالة اسلوب العمل، بلغنا ان الاستقلال النظري للشيوعية الحقيقية في ايران، وبالحد الاولي الذي حققناه، باي سهولة نسبياً قد غدا (وقصده تحقيق اسلوب العمل الشيوعي-م) امراً عملياً. ان الاشتراكية الشعبوية، ولشدة هزالتها من الناحية النظرية، وغير ماركسية وابتذالها السافر، و عملية الثورة نفسها كانت على قادرة على تعرية وكشف الامور وبدرجة عالية من النقدية، تراجع في فترة تقل عن سنة المدافعون عنها والمنظمات المتبنية لها عن مجمل مواقفهم النظرية والتكتيكية، وعن القسم الاغلب من المقولات والمفاهيم التي كانت تشكل مدرستهم الفكرية ونماذجهم واهدافهم المعلنة. من المؤكد ان ان تحريفات قسم من هذه الاشتراكية الشعبوية قد بلغت نهايتها المنطقية والتحقت بمسارها الفكري الاساسي (على الاغلب حزب توده). ولكن مر قسم اوسع بعملية ردكلة (من كلمة راديكالية-م)، بل هب حتى غلاة الشعبويون نحو نقد الشعبوية وسعوا الى اضفاء صبغة ماركسية على انفسهم، وتحول فجاة الى "مد وموضة".
ولهذا، في غضون سنوات قليلة، انقلب الاستقطاب الطبقي داخل اليسار لصالح الماركسية الثورية، الماركسية التي كانت تنشد شيوعية بروليتارية- شيوعية تنفصل عن التقاليد والارث القائم للطبقات الاخرى بصورة تامة، وتسند نفسها الى فكر وبرنامج ماركسي صحيح من جهة، والى الطبقة العاملة من جهة اخرى. فيما يخص الاشتراكية الشعبوية، فانها اما تعرضت لازمة او اقامت، عبر تعميق انحرافاتها، صلة اكثر علنية باهداف ومصالح البرجوازية. من جانب اخر، ورغم تعرض حركة اليسار الى اشرس الضربات القمعية للبرجوازية ونظامها الاسلامي، الا ان الماركسية الثورية كانت قادرة في الوقت ذاته على اتخاذ خطوة صوب الاتحاد والتقوية وان تتمتع بالحد الادنى من النفوذ المعنوي والمادة العملية اللازمة لصياغة وارساء تيار حزبي مستقل.
اذا تركنا جانباً اولئك الذي فضلوا انكار وجود الحقائق الموضوعية نفسها، فان كل امرء يتمتع بادنى امكانية للتشخيص السياسي، يرى ان الحزب الشيوعي الايراني اليوم هو تنظيم تيار شيوعي ناشط متمايز ومستقل بصورة تامة عن المسار العام لليسار الايراني في العقد الاخير. حزباً لايراوده توهم بالبرجوازية والراسمالية، حزباً لاينسب نفسه وليس له صلة بـ"الايام الجميلة والجيدة" لحزب توده، بمنظمة الفدائيين الحضرية، وبالجناح اليساري المقدِّسْ للدكتور مصدق (زعيم تيار برجوازي-قومي داعي للتاميم والانسلاخ عن الغرب-م) وامثاله. حزب حسم امره مع الاحزاب البرجوازية المعارضة، وليس باللفظ فقط وانما عملياً، نهض، وبمجمل وجوده، للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة بوجه الاقسام المختلفة للبرجوازية. حزب وقف بصورة حازمة بوجه المعسكرات المختلفة للتحريفية. حزب بدرجة من الماركسية بحيث اكد على ضرورة ارساء اممية شيوعية بوجه هذه المعسكرات، ولاتفتر همته جراء ياس يدب في اعماق اشتراكيين قانطين وعديمي الافق. وعلى النقيض من الطيف الواسع من الاشتراكية المُفَسِّرة والمنفعلة التي لاتُمثل في اوربا وحسب، بل بصورة واسعة بين المثقفين اليساريين في ايران، وضع الحزب الممارسة الشيوعية بوصفها مشكلته وانهماكه، ولم يدير ظهره للثورات والحركات العملية، ويفهم الصلة بين الثورة والاصلاح والنضالات المرحلية. حزباً لايساوم ولايسكت في الوقت ذاته على اي خرافة دينية، قومية او اي فكر متخلف محلي بحجة "ثورة ايران" و" حفظ وحدة الجماهير".
لدينا معارضين كثر، ولكن من بين معارضينا، منهم على اية حال يبحث عن نوع من شيوعية مستقلة، مبدئية وبراكتيكية ممارساتية، يفهمون ببساطة ان في غياب هذا الحزب، فاي جمع يبعث على الملل والياس ذلك اليسار الذي ينتصب امامهم، يسار بالطيف المتفرق للفدائيين-طريق العامل والذي يبقي بصعوبة نفسه منفصلاً عن حزب توده، بالحلقات البحثية التي في بحثها عن شيوعية حقيقية سقطت من عالم السياسة الى برزخ الفردية والذاتية او حتى الغرائبية النظرية التي لاتمت بصلة بالواقع، بالتيارات التي ترمي نفسها تواً من انقاض المجلس الوطني للمقاومة خارجه، بالليبرالية اليسارية التي يتلخص عملها بتفسير حركات اؤلئك انفسهم.
استطعنا اليوم ان نؤسس ماركسية ثورية متحزبة وممارساتية متنامية امام التحريفية والانتهازية المنظمة تقليدياً في ايران. ولكن هذه فقط نقطة في اول الدرب. ان اساس القضية هو تحويل هذا التيار الى حزب طبقي حقيقي، حزب منظم لاكثر عناصر الطبقة العاملة طليعية والقادة العمليين للحركة العمالية. ينبغي ان يتحول هذا الحزب الى تقليد نضالي راسخ داخل الطبقة العاملة. ينبغي فهم مسالة النظرية الماركسية للتنظيم واسلوب العمل الشعبوي في سياق عملية الاستقطاب السياسي-التنظيمي لليسار في ايران وامتداداً لنفس مسار صياغة وتشكل شيوعية عمالية عملياً في ايران. ليس اسلوب العمل الشيوعي بالنسبة لنا مجرد نسخة لتنظيم هيكلية وعمل القوى التنظيمية الموجودة للحزب الشيوعي. ليست نسخة لتناسب الاوضاع الامنية الجديدة، ليس اسماً اخراً للادارة التنظيمية، بل تبيان توجه طبقي اساسي. ان اسلوب العمل الشيوعي، بالضبط مثل برنامج الحزب، اداة وضع الشيوعية في متناول الطبقة العاملة وتحويل هذه الشيوعية الى مسار واساس للوحدة الطبقية للعمال.
اننا نتحدث هنا لا عن سلسلة من الاصلاحات العملية ولا عن سياسة تتطابق مع الاوضاع الجديدة، بل عن انفصال عن الاساليب العملية للطبقات الاخرى، وتطابق مع حاجات الطبقة العاملة والثورة العمالية. ينبغي ان تمر الماركسية الثورية في ايران بهذه المرحلة من التطور. فقط في حالة هي ان تتحول الشيوعية والنضال الشيوعي الى شكل من الاحتجاج والنضال المنظم للعمال انفسهم، بشكل طبقي-ثوري لنضال العمال.
اسلوب العمل الشيوعي: انفصال عن التقاليد العملية للطبقات الاخرى
في السابق، حين كنا نشهد انزواء الاشتراكيين الشعبويين عن الطبقة العاملة والحركة العمالية، كنا نوضح المسالة لانفسنا كالتالي: ان هذا الانزواء ناجم عن انفصال وغرابة الاهداف والامال السياسية والبرنامجية للشعبوية عن المصالح والاهداف الحقيقية للطبقة العاملة وثورتها. من الواضح ان تقديس "البرجوازية الوطنية" وارساء ايران راسمالية صناعية ليس بوسعه ان يجعل طرفاً ما عمالياً، وان سحب العمال لاياديهم من المصالح الطبقية بحجة نضال "الشعب ضد الامبريالية" او "تطور التاريخ" ليس بوسعه ان يتحول الى راية نضال القسم الواعي للطبقة العاملة والجماهير المحتجة لهذه الطبقة. ولهذا، فان نضال الماركسيين الثوريين ضد هذه الاراء والافكار البرجوازية والبرجوازية الصغيرة نفسه خطوة اساسية في صياغة مجموعة الاهداف، والامال والسياسات والنظرات والبرنامج التي بوسعها بصورة موضوعية ان تعبر عن المصالح الطبقية للعمال واساس وحدتهم. انها الماركسية الثورية التي بوسعها ان تكون مؤثرة وليس الافكار المضخمة للبرجوازية المتوسطة والصغيرة.
ان هذا التوضيح صحيحاً ومبدئياً دون شك. بيد انه يبين نصف الحقيقة. ان ماوضعنا اصبعنا عليه في مؤتمر اتحاد المناضلين الشيوعيين هو ان حتى النظريات المبدئية والنقية الشيوعية، الافكار المبدئية للماركسية الثورية كذلك لاتتحول بحد ذاتها الى افكار واهداف القسم الطليعي من العمال في مجتمع معين في مرحلة محددة وتخلق شيوعية مقتدرة عمالية وذلك لمجرد حقانيتها وصحتها الطبقية والثورية. ولكن الا اذا تناغمت وتناسبت الحركة الشيوعية في اساليبها العملية مع مصالح واهداف الطبقة العاملة ومع الوجود الاجتماعي الموضوعي لهذه الطبقة. ومثلما ان بوسع العمال، واستناداً بصورة محض الى الافكار والاهداف والسياسات المحددة والمعينة ان يبلغوا التحرر النهائي والتام، وعلى غرار ذلك ايضاً بوسعهم، فقط عبر اساليبهم المحددة والخاصة، ان ينتظموا من اجل التحرر وان يشرعوا بنضالهم الثوري. ان اسلوب العمل الشيوعي هو مجموعة من هذه الاساليب الخاصة بالنضال الاشتراكي للطبقة العاملة؛ اساليب وتقاليد العمل النضالي تلك التي تمكن العمال من التنظيم بوصفهم طبقة اجتماعية معينة، ويثوروا بوصفهم طبقة اجتماعية خاصة. التنظيمات الشيوعية، الحزب الشيوعي، اداة طبقة محددة لثورة محددة. ولهذا، من الواضح ان خصائص واسلوب عمل هذه التنظيمات ليس انتقائياً ولا اختيارياً ولاصدفة، بل تحددها ضرورة وجودها وموضوع نشاطها. زد على ذلك، من الواضح ايضاً ان ليس بوسع التنظيمات الشيوعية ان تعمل وفق الفهم التنظيمي وتقاليد العمل التنظيمي للطبقات الاخرى والتي، من حيث الاهداف السياسية او من حيث وجودها الاجتماعي الموضوعي على السواء، ذات اختلافات اساسية مع الطبقة العاملة بالاجر. ان عمالية الحزب الشيوعي مرهونة تماماً بامكانية الحزب الشيوعي على ان يعمل بصورة عمالية، ولاي حد بامكانه ان يتحلى بخصائص التحول عملياً الى اداة نضال والى اطار لتنظيم العمال.
اسمحوا لي قبل ان امضي ابعد، ولكي اجعل البحث اكثر ملموسية، ان اذكر بعض النماذج والحالات المتعلقة بـ"تقاليد العمل التنظيمي للطبقات الاخرى". على سبيل المثال، النزعة النقابية شكل معين من تنظيم العمال. ان هذا الشكل يتناسب مع النضال من اجل الاصلاحات في اطار النظام القائم. في تقاليد العمل النقابي، ان العامل هو بهيئة "عامل عامل"، اي عامل منهمك عملياً بالانتاج، ومشغول عملياً بـ"مهنته".
النقابية شكل معين لتنظيم العمال بوصفهم افراد عاملين في مهن مختلفة. ينظر الى الطبقة العاملة، وفق التفكير النقابي، من وجهة نظر الراسماليين، اي بمثابة عمال باعوا عملهم للراسمال، ويساوم اليوم حول اوضاع شراء وبيع سلعته. ويتم هنا تناسي قسم واسع من الطبقة العاملة. العوائل العمالية، الاطفال، الفتيان، وكهل الطبقة العاملة، الزوج/الزوجة غير العاملين للعمال، العاطلين كلهم خارج اطار واجواء العمل المباشر للحركة النقابية، ومن هذا الجانب بالضبط، حتى لو كانت النزعة النقابية قادرة على الدفاع عن العمال العاطلين في حالة الطرد هذه او تلك، لن تكون قادرة اطلاقاً على الرد على مسائل الجيش الاحتياطي الذي لم يستخدم بعد او لايستخدم اطلاقاً. حين يسحب الراسمال اياديه من استثمار وتوظيف راسمال جديد ويغلق وحدات انتاجية، ليس بوسع النقابة بحد ذاتها ان تكون قادرة على تنظيم اقل مقاومة.
ان ازمة النقابية اليوم هي في الحقيقة قلة الاثر النسبي لهذه الاداة المحددة، "العمال العاملين"، في الدفاع عن اوضاعهم في وقت ان البرجوازية، لابصورة فردية في الفروع الانتاجية، بل على هيئة دولة، وعبر تقليص الانفاق الاستهلاكي الحكومي والخدمات الاجتماعية وتقليص استثمار الراسمال في الاقسام الانتاجية الاقل ربحية، تهبط عملياً بمستوى معيشة العمال ورفاههم، تعليمهم وصحتهم. ان مكان نشاط النقابة هو فرع النقابة في الفرع الانتاجي، لان المحور هو العامل العامل. لاتقوم النقابة بعمل محلي. اذ النقابة غير قادرة على اي نوع من تنظيم الطبقة العاملة خارج المعمل. ولذا نظراً لكون المعمل هو فقط ميدان، وان يكن مهم جداً، لتجابه الطبقات، ان النقابة غير قادرة حتى على الدفاع النشط عن مستوى معيشة العمال العاملين كذلك. (من الواضح ان بحثنا هو ليس حول كون النقابة اطاراً مطلوب او غير مطلوب بالنسبة للعمال، بل حول اسلوب العمل النقابي والمفاهيم والتصورات المتضمنة فيه). ونظراً لماذكرناه، سيكون اسلوب عمل حزب شيوعي مختلفاً كثيراً عن اسلوب عمل النقابة. ليس التقليد النقابي للنضال العمالي تقليداً-طبقياً ثورياً. انه، في التحليل الاخير، احد تقاليد "الطبقات الاخرى"، وليس بوسع الطبقة العاملة ابراز مجمل طاقاتها الثورية عبر النقابة.
لاورد مثال اخر يتعلق بالاحزاب الاشتراكية الديمقراطية والاوروشيوعية (الشيوعية الاوربية-م). ان الهدف الذي وضعته هذه الاحزاب نصب اعينها هو تحقيق النصر البرلماني. ان الاشخاص الذين بوسعهم ان يرسلوا ممثلي هذه الاحزاب الى البرلمان هم الناخبين بصورة عامة وليس العمال صرفاً. اذ تجري الانتخابات على اساس مناطقي-محلي. ان الدائرة الانتخابية هي دائرة محلية. وبناءاً على هذا، تُنَظَّمْ البنية التنظيمية لهذه الاحزاب على اساس محلي وتتمركز قيادتها في البرلمان. حيث تفتقد هذه الاحزاب الى تنظيمات معملية على الاغلب. ولاتستطيع، الا داخل المجلس، ان تتدخل بصورة مباشرة في مجابهة العامل وصاحب العمل. لكي تُنتخَبْ، ينبغي ان تكسب راي الناخبين عامة اليها، واذا ارادت بصورة خاصة ان تكسب صوت العمال، فانها تستند على الاغلب الى اطلاق الوعود من جهة وشبكة النقابة من جهة اخرى. وفق اسلوب عمل هذه الاحزاب، وعلى الرغم من اطلاق تسمية عمالية على نفسها، لايوجد ظهور خاص للطبقة العاملة بوصفها طبقة، بل تعد كتلة من عدة ملايين من بين مجمل الناخبين. من الجلي ان اسلوب العمل البرلماني يفصل وينزع مجمل نقاط اقتدار وقوة الطبقة العاملة في الانتاج ومجمل الادوات النضالية للعمال في هذا الميدان. ان هذا الفراغ في اسلوب عمل الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية تملئه النقابات. اذ تكمل النقابات والاشتراكية الديمقراطية بعضهم في مؤسسة اصلاحية واحدة. من الواضح ان "اسلوب عمل الطبقات الاخرى" هذا لايناسب ثورة العمال بوصفهم طبقة متمايزة.
نموذج اخر هو الفدائي. السياسة التي يقولون عنها انها، وبخلاف حالة ايران، ذا نماذج "ناجحة" في امريكا اللاتينية. في اسلوب العمل الفدائي عموماً،تُنتَزَع وتُفصل الطبقة العاملة بوصفها قوة محركة للثورة. يعد العمال ذخيرة قوة الثورة، وحين يكون بوسعهم ان يشرعوا بالنضال بصورة نشطة، لن يبقوا عمالاً عملياً. ولهذا، ليس بوسعها ان تتخذ هذا الاسلوب بمثابة طبقة. قد يصبح عشرة، مئة، الف، او عشرة الاف عامل فدائياً، ولكن ليس بوسع الطبقة العاملة، بوصفها طبقة منتجة ومستغلة في المجتمع، وبمجمل حيثيات وجودها، ان تكون فدائية. اذ يناسب النهج الفدائي وضع الفئات البرجوازية الصغيرة والتي تعد الفردية جزء من هويتها الاقتصادية والاجتماعية. في النهج الفدائي، ليست قوة الطبقة العاملة في تنظيمها، بل في تفرقها وانظمامها الفردي الى القوة الفدائية. ليس بوسع "تقليد الطبقات الاخرى" هذا كذلك ان يناسب ثورة العمال بوصفهم طبقة. وان يكن من الممكن ان يتخذ حزب شيوعي العمليات الفدائية بوصفها شكل من تكتيك موضعي، بموازاة العمل الحزبي الاساسي.
ان النماذج التي ذكرناها هي حالات تتناقض بصورة سافرة مع اسلوب العمل الشيوعي الذي في ذهننا. انها ضرورية لتوضيح راينا بـ"تقليد الطبقات الاخرى"، ولكن سنبلغ لاحقاً نقطة الا وهي: كيف ان حتى اسلوب العمل "السياسي-التنظيمي" للخط الثالث (طيف هجين من اليسار القومي البرجوازي المنتقد لتوده ويعد الاتحاد السوفيتي بلدا غير اشتراكياً-م) كذلك، على سبيل المثال، ذا شبه اكبر بالتقاليد غير البروليتارية المورروثة مقارنة بتقاليد العمل الشيوعي المنشودة.
يتمثل البحث، على اية حال، باتخاذ وترسيخ اساليب وتقاليد العمل الشيوعي تلك التي تناسب وتتناغم مع وجود الطبقة العاملة بوصفها طبقة ومع الثورة الاشتراكية للبروليتاريا. في هذه الحالة فقط، بوسع هذه الاساليب والتقاليد ان تتحول الى اسلوب وتقليد الطبقة العاملة نفسها والطليعيين والقادة العمليين لهذه الطبقة انفسهم، وتتموضع الشيوعية بوصفها تيار في داخل الطبقة العاملة، وتتحول الى تيار من الطبقة نفسها.
لتمحيص بحث اسلوب العمل الشيوعي، ينبغي ان نبدأ من الصيغة المكثفة السابقة نفسها: الحزب الشيوعي اداة طبقة محددة لثورة محددة. ينبغي التدقيق بكلا الجزئين من هذا التعريف، اي طبقة محددة وثورة محددة، واستنتاج الوجود المتنوع لاسلوب العمل الشيوعي ومعناه العملي في الميادين المختلفة منهما.
(للبحث تتمة)
منصور حكمت
صدر لاول مرة في جريدة كومنيست-الشيوعي- الجريدة المركزية للحزب الشيوعي الايراني، العدد ۲۲، اواسط ايلول ۱۹۸۵.
وتمت الترجمة عن النص المنشور في سايت منصور حكمت
hekmat.public-archive.net
من الجدير بالذكر، لم يكمل منصور حكمت هذا البحث في الاعداد اللاحقة وانما باشكال وابحاث اخرى اكثر تفصيلية.
ترجمة: فارس محمود
Arabic translation: Faris Mahmood
hekmat.public-archive.net #0300ar.html
|